لا يمكن ان يمضي العالم كأن شيئا لم يكن، بعد هذه التظاهرة المليونية التاريخية ضد الارهاب التي شهدتها باريس امس الاول الأحد، حتى وان تصدرها بنيامين نتنياهو احد اكبر رعاة الارهاب في العالم. ما تعرف بـ «غزوة شارلي ايبدو» طعنت فرنسا في وجدانها المتمثل في حرية الرأي والتعبير، وتنذر بتغيير «روح اوروبا» وصورتها امام ذاتها والعالم، فيما يهزها مخاض مرحلة جديدة من الارهاب يترقب العالم ليعرف ان كانت وعت الدروس الباهظة الكلفة من الحرب الاولى التي اعقبت هجمات أيلول/سبتمبر في العام 2001.
تبدو اوروبا مستعدة للتضحية بالكثير من احلامها وربما قيمها ايضا هذه المرة. فرنسا التي اعلنت حربا صريحة على الارهاب تقرر نشر عشرة آلاف من جنود الجيش لحماية المنشآت الحيوية في البلاد، وتتحدث عن شن عمليات استخباراتية واسعة في بلاد عربية. اسبانيا تتحدث عن ضرورة اعادة النظر في التنقل في اووربا بدون شروط داخل نطاق دول «شينغن».
المانيا ستقر غدا الاربعاء مشروع قانون يقضي بسحب بطاقات الهوية من الارهابيين المحتملين لما يصل إلى ثلاث سنوات، وهي ضعف المدة التي كانت مقررة في بادىء الأمر، وذلك لمنعهم من الانضمام إلى متشددين في الشرق الأوسط. بلجيكا تحضر قوائم باسماء كل من يستعد او يفكر او يحاول الالتحاق بصفوف التنظيمات المتشددة.
بريطانيا التي شددت قوانينها قبل شهرين فقط، تتجه الى مزيد من الاجراءات التي تخدم شعبية حزب المحافظين مع اقتراب الانتخابات العامة. الاتحاد الاوروبي يخصص قمته المقررة الشهر المقبل لبحث القضية الامنية.
وعلى المستوى الدولي لا يبدو التأهب أقل زخما. الولايات المتحدة تسعى لاستثمار سياسي للاحداث بعقد قمة دولية خاصة لمكافحة الارهاب الشهر المقبل، املا في اعادة الروح لحربها المتعثرة ضد ما يعرف بتنظيم «الدولة الاسلامية» في سوريا والعراق. رئيس الاركان الامريكي الجنرال مارتن ديمبسي يعلن استعداده لارسال قوات برية الى البلدين فور صدور اوامر بذلك. تقرير مخابراتي «سري للغاية» كشفت «نيويورك تايمز» النقاب عنه جزئيا امس يشير الى توسع كبير في دور مكتب التحقيقات الفيدرالية (اف بي اي) في التجسس على حسابات البريد الالكتروني والمكالمات الهاتفية لغير الامريكيين حول العالم بشكل تدريجي منذ العام 2007، دون الحاجة للحصول على اي اذن قضائي.
اما في الشرق الاوسط، فان المعطيات الجديدة قد تمنح ادوارا جديدة لدول جديدة، ما يعيد رسم التحالف الدولي ضد الارهاب، ويوسع من خارطة اهدافه وطبيعتها. وبينما تدق عاليا طبول حرب جديدة، الا بالنسبة الى اولئك الذين قرروا دفن رؤوسهم في الرمال، ينبغي علينا نحن العرب، اكثر من عانى من الارهاب، ان نكف عن محاولات الانكار او التبرير للارهابيين بافتعال نظريات المؤامرة وتصديقها. فكوننا اصحاب قضايا عادلة وضحايا ظلم حقيقي، واحتلال غاشم، وانظمة ديكتاتورية لا يمنحنا الحق في قتل الابرياء. فقط علينا ان نذكر العالم بأن الارهاب ينتصر ولا ينهزم باصرار البعض على ان يدهس حقوق الانسان في ساحة الحرب المشروعة ضده، وبالاستمرار في التغافل عن مآس ومظالم تاريخية صادقة، وخاصة في فلسطين. واذا كان من درس واحد ينبغي ان نتعلمه من «الحرب القديمة» على الارهاب، فهو انه من الاجرام ان نحارب الارهاب بالارهاب، لان النتيجة سوف تكون دون شك انتاج المزيد من الارهاب. بل من الانصاف القول ان الارهاب ما كان يبلغ ما نراه عليه اليوم من توحش وشراسة، لولا الحرب الغاشمة التي شنها جورج دبليو بوش ضد العراق في 2003، والتي تمثل ابشع انواع ارهاب الدولة. كما انه من غير الواقعي الزعم بأن الارهاب مجرد ظاهرة سياسية او امنية فقط، وتجاهل الجذور الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تغذيه.
نعم مطلوب هذه المرة مقاربة شاملة وجديدة حقا في محاربة الارهاب تحترم حقوق الانسان مهما كان دينه او لونه، ولا تنتهك القانون الدولي، ولا تجرح الخصوصية الثقافية للشعوب، ولا تكتفي بمعالجة الاعراض، بل تذهب عميقا في التعامل مع المسببات.
القدس العربي _ وطن اف ام