وأخيراً؛ توصلنا، نحن معشر الفئران، إلى قرار مصيري بضرورة الاحتفال برأس السنة هذا العام، على أن نتوج احتفالنا بالتخلص من الجحر الذي رافقنا منذ عصور الانحطاط.
ولكي لا نكون مدعاة لسخرية القطط التي تعايرنا، دوماً، بذلك المثل الذي تحفظه عن ظهر مواء، “تمخض الجبل فولد فأراً”، فإننا نعلن أن هذا القرار لم يكن وليد مصادفة، بل تمخض عن سلسلة اجتماعات “قمة” مضنية، بعد أن شعرنا بضرورة مواكبة العصر، واللحاق بركب القطط التي باتت تحتل شوارع الحداثة والتطور، ولم تبقِ لنا غير الجحور.
نعترف بأننا واجهنا صعوبة كبيرة، في البداية، كي ندير اجتماعاتنا بعلميةٍ لم نتعود عليها، ونقصد “القمم” الخرافية التي بدأت بـ”اللاءات” وانتهت بـ”النعامات” على مدار أزيد من نصف قرن، والتي كانت تتمخض فعلياً عن أكثر من “فأر”، في نتائجها ووعودها التي يحسدنا عليها “عرقوب” نفسه.
قلنا هذه المرة: حريّ بنا أن ندهش عالم القطط، بابتكاراتنا وقدرتنا على الإبداع، ومن يدري، فربما تكون إبداعاتنا في رأس السنة مقدمة لنهوضنا الفئراني المنشود.
والحال أن فكرة اعتلاء هرم الحداثة بالمقلوب جاءت من فأر “ذكي”، يدّعي أنه صديق للقطط، وهو مشهور بذيله الطويل الذي اعتنى به جيداً، وجعله، من شدة إعجابه به، رأساً له، يفكر من خلاله، إضافة، طبعاً، إلى مهامه الأخرى في تملق القطط.
أقنعنا هذا الفأر الذكي، وبحكم عمالته للقطط، أن في وسعنا أن نصبح شعوباً تكنولوجية مرهوبة الجانب، وذات وزن معتبر، في قائمة الشعوب المتحضرة، إذا بدأنا مسافة الألف ميل بخطوة الاحتفال برأس السنة، قال لنا “إذا أمسكتم الرأس، حظيتم بالجسد كله، ودخلتم عصر الحداثة من أوسع الأبواب، وسأكون أول من يعلق الجرس”.
وحين سألناه “كيف ستعلق الجرس”، أجاب: “بسيطة، هذه اتركوها عليّ، فأنا وبحكم كوني فأراً ثرياً يعلم من أين يؤكل الجُبن، فقد استطعت تكوين ثروة مهولة، وأستطيع رصد مبلغ طائل لشراء مفرقعات وألعاب نارية، تشد انتباه القطط كلها”.
سألناه بخجل: “سيدنا، إذا كنت قادراً على إنفاق هذا المبلغ المهول في ليلة واحدة، فحتماً سيظهر كرمك الطائي في مساعدة فقرائنا الذين لا يستطيعون مشاركتنا هذا الاحتفال، خصوصاً ممن يرزحون تحت وطأة الجوع والعري والتهجير والحصار”.
عند هذا السؤال، غضب فأرنا الثري، وأجاب: “أيها الأوغاد، قلت لكم إن الاحتفال المهيب كفيل بحل جميع قضايانا، فنحن سنبدأ من الرأس كما أخبرتكم، وما تلك القضايا التي تتحدثون عنها سوى أذناب في معايير العالم القططي”.
الواقع أن نبرة فأرنا الثري أشعرتنا بالتفاؤل. لكن، ظل سؤال ملح يدور بخلدنا حول الهدف الاستراتيجي الذي يلي الاحتفال، ونقصد بذلك بعد خروجنا من الجحر، غير أننا أجلنا السؤال إلى ما بعد الاحتفال، كي لا نثير حفيظة فأرنا الأكبر، خصوصاً أنه لم يعد يحتمل مزيداً من الأسئلة.
عموماً، وبعد أن توافقنا جميعاً على طريقة الاحتفال، خرجنا ليلة رأس السنة من الجحر، لندشن عصر “الحداثة” بالمقلوب، بدأنا من حيث انتهوا هم. صحيح أن احتفالاتهم جاءت تتويجاً لأشواط عديدة من الإنجازات والابتكارات، وخلاصة منطقية لرفاهيتهم التي يعيشونها على مدار اللحظة، وصحيح أنها تأتي تتويجاً أيضاً لعصور من الكرامة والحرية واحترام الحقوق، مقابل احتفالاتنا التي نرقص فيها من شدة الذبح والهزائم والانتكاسات، وهضم الحقوق، والتهميش. لكن، لا بأس، فقد أقنعنا فأرنا “الذكي” أن المهم هو القبض على “الرأس”، ومن ثم يغدو كل شيء سهلاً، كسهولة فرقعة أموال الثراء.
وبعد أن انتهى كل شيء، رأينا فأرنا المترنح يتجه إلى جحر آخر، غير الذي خرجنا منه، فسألناه بدهشة: “هل نعود إلى الجحور؟”
أجاب: “أيها الأغبياء، التغيير يبدأ بالانتقال من جحر إلى جحر”.
العربي الجديد – وطن اف ام