مقالات

مصطفى قاعود : مخيم اليرموك وأحجية الحصار!

تفتقد أزمة مخيم اليرموك المحاصر منذ عامين إلى رؤية فلسطينية موحدة، لحقيقة ما جرى ويجري هناك، في حين كان المخيم الرديف الكفاحي الأول للثورة الفلسطينية المعاصرة، فعلى أكتافه وبدماء أبنائه ترسخت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني.

 لطالما اعتبر اليرموك عاصمة الشتات الفلسطيني، رغم الرمزية الكبيرة التي يحملها هذا المخيم وقفت قيادة منظمة التحرير عاجزة أمام أزمته، عاجزة بالمعنى السياسي لفهم حقيقة ما جرى في المخيم، ولناحية تقديم سبل الإغاثة لسكانه المنكوبين في الداخل والخارج، وما ينطبق على اليرموك ينسحب على كل المخيمات الفلسطينية في سوريا، بيد أن أزمة اليرموك أعمق وأعقد وأكثر كارثية، نظرا لمكانته السياسية والاجتماعية.

تفنن البعض في اختراع مصطلحات للتعمية على واقع الحصار، فهناك من ابتكر مصطلح «المخيم المختطف» في إشارة إلى وجود جماعات مسلحة تختطف المخيم، دون التطرق إلى الحصار الذي يفرضه النظام السوري على المخيم من خارجه، والبعض سلم بأن وجود عناصر مسلحة هو سبب الحصار وبالتالي الحصار مشروع ومبرر، البعض الآخر قرر تجاهل الأزمة والاكتفاء بعد ضحايا المخيم، دون الإشارة إلى الجناة، وآخرون أكتفوا بالعمل الإنساني الإغاثي على مبدأ أضعف الإيمان. فما هي حقيقة ما جرى في اليرموك وكيف كانت العلاقة بين المخيمات ومنظمة التحرير والفصائل عشية اندلاع الأزمة في سوريا؟

العلاقة بين مخيمات سوريا والفصائل والمنظمة:

زادت طبيعة العلاقة المأزومة بين سكان المخيمات والفصائل من كارثية الأزمة التي تعرضت لها، حيث كان هناك اغتراب وشبه قطيعة بين الفصائل وجمهور المخيمات، فبعد اتفاق أوسلو وانتقال مركز الثقل الفلسطيني إلى الداخل، تم اختزال منظمة التحرير الفلسطينية بالسلطة الفلسطينية، ومع انكشاف نفق المفاوضات المظلم، بدأت جماهير المخيمات في الشتات تشعر بخيبة الأمل، فابتعدت عن المنظمة وعن الفصائل، استطاعت هذه المخيمات أن تدير شؤونها وتتخذ مواقفها تبعا للمزاج الشعبي الفلسطيني، هذا المزاج الذي كان على الدوام أكثر وعيا واستشرافا مما كانت تذهب إليه القيادة السياسية، إذ ينطلق من المصلحة الوطنية والاجتماعية لجماهير المخيمات، في حين كانت الفصائل تحدد مواقفها انطلاقا من الحسابات الضيقة والفصائلية المقيتة، لذا لم يكن بمقدور أي فصيل سياسي الادعاء بأنه قادر على التأثير على حركة الشارع الفلسطيني في الشتات، أو تكوين رأي عام جامع حول قضية ما إلا ما ندر، تعمق هذا الشرخ بعد إحباط انتفاضة الأقصى، وبات أكثر وضوحا في ظل الانقسام الفلسطيني، إذ يعتبر جمهور المخيمات من أكثر المدافعين عن الوحدة الوطنية، وقد دفع في الثمانينيات أثمانا باهظة للحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية.

كيف تعامل اليرموك مع أزمة سوريا؟

في ظل الواقع الآنف الذكر لاذت الفصائل الفلسطينية بالصمت وعدم التعبير عن أي موقف علني، حيال ما يجري في سوريا، فيما اتجه المزاج الشعبي الفلسطيني بغالبيته العظمى، إلى انتهاج سياسة الحياد الإيجابي، بمعنى أنه لم يتدخل بشكل مباشر في الأزمة، وبذات الوقت كان هناك تعاطف ضمني مع الحالة الشعبية خصوصا عند سماع أنباء سقوط ضحايا بين صفوف المدنيين السوريين، في ظل وجود نسيج اجتماعي واحد بين الفلسطينيين والسوريين، خرجت العديد من المظاهرات في الأحياء السورية في محيط المخيم، منها الحجر الأسود، التضامن، يلدا، ببيلا، القدم، حافظ المخيم على المزاج الشعبي الحيادي، فيما استفز تدخل القيادة العامة جماهير المخيم، ومع انتشار أنباء عن اختطاف وتصفية مجموعة من شباب جيش التحرير الفلسطيني من مخيم النيرب، ازداد الاحتقان بشكل كبير خاصة أنه كان متوترا بالأصل بعد الأحداث الدامية التي حصلت أثناء تشييع شهداء المخيمات الذين سقطوا في الجولان عشية إحياء ذكرى النكسة، فخرجت مسيرة كبيرة في المخيم كردة فعل عفوية عبرت عن التمسك بالحياد الإيجابي، ورددت شعارات من نمط «فلسطيني وسوري واحد». ظل سكان المخيم في حالة ترقب وخوف، إلى أن قامت قوات النظام السوري باقتحام حيي التضامن والحجر الأسود، وبالمناسبة هذه الأحياء متداخلة مع المخيم حتى أن سكانها خليط من الفلسطينيين والسوريين، في هذه الأثناء نزح عشرات الآلاف من سكان التضامن والحجر، وفتح أهل المخيم بيوتهم ومدارسهم ومساجدهم لاستقبال النازحين، وقام المخيم خلال ساعات بجهد إغاثي تعجز عنه الدول، وتشكلت لجان للإغاثة ضمت مئات الشباب الفلسطينيين، الذين عملوا تحت شعار العمل الإنساني، وقد قام هؤلاء بمنع الرجال ممن يريدون تقديم المساعدات للمنكوبين من دخول المدارس ومراكز الإيواء، بتصرف واع وحكيم وبرروا ذلك بالقول أنهم لا يريدون أن يكون لدى النظام حجة بان هذه المراكز تحوي مسلحين، وذلك لحماية المدنيين من أي ردات فعل محتملة، بيد أن القصف المدفعي وقصف الطيران الذي تركز على التضامن والحجر راح يطال المخيم بين الحين والآخر، ومن أبرز الحوادث كانت مجزرة شارع الجاعونة التي وقعت مع آذان المغرب في رمضان 2012، فيما دمرت الكثير من البيوت في شارع فلسطين الذي يفصل المخيم عن التضامن، كذلك تضررت بيوت الفلسطينيين في شارع الثلاثين وغرب اليرموك خاصة في المنطقة التي تفصل المخيم عن الحجر الأسود. بدأت أزمات الغذاء والوقود بالتفاقم، وخاصة أزمة الخبز وجرار الغاز التي تستعمل للطهي في البيوت، كل ذلك بغياب الفصائل الفلسطينية عن دائرة الفعل والتأثير، حيث اكتفى الأعضاء المنتمون للفصائل بالانضمام إلى لجان الإغاثة الشعبية الطابع، إضافة إلى القيام بأعمال تنظيف الشوارع وإزالة النفايات التي تراكمت في الطرقات، في حين لم يكن هناك أي توجه سياسي واضح حيال هذا الواقع الذي بدأ يقحم المخيم في الأزمة السورية.

الشعرة التي قصمت ظهر البعير

في ظل الاشتباكات المتقطعة في محيط المخيم وتفاقم أزمة الغذاء وتقلص فرص العمل وارتفاع نسبة البطالة، بدا مصير المخيم مجهولا، فراح الكثير من ساكنيه يفكرون بالرحيل، ومنهم من رحل فعلا سواء إلى لبنان، أو إلى مناطق داخل دمشق أكثر أمنا، وفيما حافظت منظمة التحرير على صمتها، قررت حركة حماس مغادرة الساحة السورية، فأصبحت المخيمات الفلسطينية بلا مرجعية سياسية، وبدأت الاجتهادات كل حسب وعيه وموقفه من الأزمة، فنشأت حالة فوضى وتخبط وعدم يقين، وكثرت الإشاعات والأقاويل التي كانت تحرك أحيانا كثيرة مجاميع بشرية من منطقة إلى أخرى، وهذا ما زاد من حاله الهلع والخوف بين السكان وخاصة الأطفال والنساء، فيما اكتفى الإعلام الفلسطيني بعد الضحايا من الفلسطينيين دون ذكر الأسباب أو تحميل المسؤولية لطرف بعينه عن هذا الحادث أو ذاك. رفعت المعارضة السورية المسلحة شعار «الطريق إلى دمشق يمر عبر مخيم اليرموك»، فيما كانت المناشدات على أشدها من لجان العمل الإغاثي بعدم زج المخيم في أي صراع مسلح، وإبقائه منطقة آمنة لجميع المدنيين من الذين نزحوا من المناطق المجاورة، لم تكن تلك المناشدات كافية لعدم زج المخيم في أتون الحرب، استمرت الاشتباكات المتقطعة على وقع الإشاعات بان المعارضة السورية المسلحة سوف تشن هجوما كبيرا لتحرير المنطقة الجنوبية، وبالفعل أحرزت المعارضة تقدما على جبهات يلدا وببيلا والحجر الأسود والتضامن، وبطبيعة الحال القدم، السبينة، حجيرة، السيدة زينب، أما الحدث الأكبر الذي أدى إلى نزوح جماعي عن المخيم، فكان قصف طائرات الميغ لجامع عبد القادر الحسيني والربع المحيط به منتصف كانون الأول/ديسمبر 2012، وهي منطقة إغاثة بامتياز، فعلى بعد خمسة أمتار من الجامع تقع مدرسة الفالوجة التي كانت تضم مئات الأطفال والنساء، وفي محاذاتها مدرسة ترشيحا، وقبالة الجامع يقع مشفى الباسل الذي كان يعالج الجرحى والمرضى، فيما التجمع الأكبر للمدارس التي تحوي لاجئين كان يبعد عن الجامع مئتي متر، حيث مدرسة القسطل والجرمق والمنصورة، كل هذه المدارس كانت تضم نازحين من التضامن والحجر.

وأعلن النظام السوري أن الغارة أستهدفت «مسلحين إرهابيين»، وفي الليلة التي تلت القصف جابت مجموعات كبيرة لم تعرف هويتها المخيم وراحت تدق على الأبواب وتطالب الناس بالرحيل محذرة من موجة جديدة من قصف الطيران، مع اشتداد المعارك والقصف المدفعي، كل ذلك ولد حالة هلع كبيرة أدت في الصباح الباكر إلى نزوح جماعي لسكان المخيم وصف بالنكبة الثانية. في ظل حالة الفوضى الكبيرة التي حصلت تقدمت قوات المعارضة المسلحة من الحجر الأسود ومناطق أخرى، واحتلت مبنى الخالصة في شارع الثلاثين التابع للقيادة العامة، وانشق عدد كبير من القوات التابعة لها لتلتحق بصفوف المعارضة.

ودخل المخيم بشكل مباشر بالصراع المسلح، تمركزت قوات النظام على مدخل المخيم، المعروف بدوار البطيخة، وفرض حصار متقطع على المخيم حيث كان يسمح على فترات للناس للخروج وجلب الخبز من فرن الزاهرة، إلى أن احتدمت المعارك أكثر فأكثر أغلق المخيم بشكل كامل وأصبح ساحة حرب، فتشكلت العديد من الألوية القتالية تحت مسميات متعددة ودخلت المواجهة مع النظام. وفي ظل اختلاط الأوراق ظهرت العديد من عصابات للسلب والنهب، فالمخيم يحوي مواد غذائية تكفيه لعدة سنوات معظمها نهب وأخذ إلى مستودعات خارج المخيم لتجار الحروب والأزمات، وبدأ هؤلاء ببيع تلك المواد الغذائية بأثمان باهظة، في ظل توقف العمل وعدم قدرة الناس على الشراء، حيث وصل في فترة من الفترات كيلو الرز إلى 9000 آلاف ليرة سورية أي ما يعادل 80 دولارا، فخاض الكثير من الشبانالمخلصين الذين تطوعوا لحماية المخيم معارك على جبهتين، جبهة مع النظام والقوات التي تحاصر المخيم، وجبهة مع اللصوص وتجار الحروب الذين لا عمل لهم سوى نهب بيوت المخيم ومدخراته الغذائية.

ليسجل التاريخ موت أهل المخيم جوعا بسبب الحصار المضروب عليه من الخارج، وبسبب تجار الحروب، واللافت في هذه الحرب وهذا الحصار أن معظم الضحايا الذين تم استهدافهم في المخيم هم من نشطاء العمل الإغاثي الإنساني، وأعضاء ومؤسسي تنسيقيات الثورة السورية الشعبية، فبدت هذه الحرب وهذا الحصار على أنه انتقام من المخيم لدوره الذي لعبه على مستوى الإغاثة، وحتى اللحظة وبعدما تم التوصل إلى العديد من اتفاقات وقف إطلاق النار دون رفع الحصار، حتى اللحظة يستمر استهداف وقنص واغتيال من وهبوا أنفسهم للعمل الخيري، هؤلاء غير قادرين على التحصن كما يفعل المقاتلون، من الطبيعي أن يظهروا بشكل علني لأن عملهم بين الناس يحتم عليهم ذلك، حتى بات كل ناشط في العمل الإغاثي مشروع شهيد أو معتقل على الأغلب. قامت بعض الجماعات المسلحة المتطرفة بجرائم بشعة، حيث نفذت عمليات إعدام في الطرقات لبعض الشباب، وبغض النظر عن التهم الموجهة لهم الأمر كان مستفزا لسكان المخيم خاصة أنه يتم تنفيذ ذلك في وضح النهار وأمام أعين الأطفال والنساء.

الهدنة وشهداء الجوع

وفشل محاولات رفع الحصار:

بعد عام متواصل من القتال والحصار، بدأت تتوارد من مخيم اليرموك الأنباء عن شهداء الجوع، فبذلت جهود كبيرة من داخل وخارج المخيم للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في شهر ايلول/سبتمبر 2013، بعد التوصل لاتفاق الهدنة أوفدت منظمة التحرير وزير العمل في السلطة الفلسطينية أحمد مجدلاني، للتواصل مع النظام السوري بهدف تسهيل دخول المواد الغذائية للمخيم، مع عدم ثبات اتفاق الهدنة بشكل نهائي، باءت جهود المجدلاني بالفشل وعقد مؤتمرا صحافيا بتاريخ 14/1/2014. عقد تصريح المجدلاني الأمور بدل أن يصلحها، لأنه أظهر انحيازه للنظام وحمل المسؤولية لطرف واحد وهو جبهة النصرة عن فشل دخول المساعدات، والحقيقة أنه كانت هناك مغالطة كبيرة بالأمر حيث المنطقة التي حددت للمجدلاني لإدخال المساعدات لم تكن مدخل المخيم الرئيسي بل كانت من جهة حجيرة والحجر الأسود، وهي خارج نطاق اتفاق التهدئة وتبعد عن المخيم عدة كيلو مترات، أي ليست تحت سيطرة الجهات التي وقعت اتفاق التهدئة من داخل المخيم، والتي لبت جميع الشروط المتفق عليها لإدخال المساعدات من المدخل الرئيس للمخيم، بيد أن منظمة التحرير وجدت في الحادثة مبررا لتعفي نفسها من مسؤولية رفع الحصار عن المخيم، واكتفت بأقوال المجدلاني بأن «المخيم مختطف من قبل عصابات إرهابية».

وقد لعب الانقسام الفلسطيني والمناكفات بين فتح وحماس دورا كبيرا في تحديد موقف السلطة المتقاعس عن نجدة المخيم، وفي الوقت ذاته لا يمكن إنكار الدور المعطل لجبهة النصرة لاتفاق التهدئة بالمخيم، حيث كان هناك مصلحة مشتركة بينها وبين النظام والقيادة العامة لتعطيل اتفاق التهدئة في المخيم، ثم ما معنى أن تقبل القيادة نفسها من جبهة النصرة اتفاقات التهدئة وتقودها في المناطق المجاورة للمخيم، مثل يلدا وببيلا وتعطلها في المخيم، وفي الوقت ذاته هل يبرر وجود النصرة وغيرها سياسة العقاب الجماعي التي تمارس بحق أبناء المخيم، الذي يضم في ظل الحصار أكثر من عشرين آلف فلسطيني وحوالي سبعين آلف سوري؟ واصلت هيئة العمل الوطني عملها داخل وخارج المخيم وتمكنت من إخراج عشرات الجرحى والمرضى، وإدخال مئات الحصص الغذائية تحت وابل القصف، والكل يذكر الصورة التي وصفت بالقيامة حيث هرع آلاف الناس إلى مدخل المخيم لاستلام كرتونة الغذاء، التي أصبحت عنوان الحياة وبذات الوقت رمزا للذل والمهانة التي يتعرض لها سكان المخيم في ظل الحصار، الذي تفاقم مع انقطاع التيار الكهربائي ومياه الشرب.

رغم توقف المعارك إلا أن المخيم ما زال تحت الحصار، وتحت رحمة الجوع وتجار الحروب، وتحت رحمة القصف والقنص والاشتباكات المتقطعة، إذ تعتبر جميع الأطراف المخيم ورقة سياسية، إلا منظمة التحرير والقيادة السياسية الفلسطينيةـ حيث ما زالت لا تتعامل مع ملف المخيم كملف سياسي من الطراز الأول، حتى أنه من الملفات التي يمكن التوجه بها إلى المجتمع الدولي ومجلس الأمن بهدف التحرك العاجل لوقف تلك المأساة المستمرة.

باحث فلسطيني : مصطفى قاعود – القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى