مقالات

هيثم حسين : الحاضنة الشعبية

‘الحاضنة الشعبيّة’ تُتهم بأنّها تلعب أدوار التعبئة عبر بثّ سموم الحقد على الحواضن الشعبيّة المعادية، في معادلة تتبدّى عصيّة على التفكيك. تتلقّف وسائل الإعلام مصطلحات فضفافة، ومفاهيم مرواغة فيها من المخادعة والإيهام الكثير، لتكون صدى للواقعيّ الموجود، لا صانعة للفكرة ومؤجّجة لها، أو ناشرة متبنّية لها.

يبرز مصطلح “الحاضنة الشعبيّة” من بين المصطلحات الكثيرة التي تتكرّر هنا وهناك، ويتمّ تداولها كحقيقة مثبتة في ظلّ الصراعات والتناحرات التي تغرق الشرق الأوسط، والتي استعرت أكثر بعد الثورات العربية والتداعيات الكثيرة التي ما تزال تفرزها وتتسبب فيها.
لا يخفى أنّه يتمّ توظيف مفهوم “الحاضنة الشعبيّة” لتجريم شرائح اجتماعيّة بأكملها، أو تدمير مدن وقرى على رؤوس أهلها، بحجّة أنّها حاضنة للإرهاب وداعمة له، وأنّها ترفده بالعناصر البشريّة، وتكفل له الغطاء الاجتماعيّ، وتبرّر له جرائمه تحت بنود الواجب، وتستقبل المتورّطين فيه كمخلّصين لا مجرمين. لذلكم فهي من وجهة نظر المخالف المختلف تستحق الإفناء والتشريد والقتل، لأنّها شريكة في القتل ومحرّضة عليه.
تتّهم “الحاضنة الشعبيّة” بأنّها تلعب أدوار التعبئة عبر بثّ سموم الحقد على الحواضن الشعبيّة المعادية، في معادلة تتبدّى عصيّة على التفكيك، بحيث أنّ الحواضن تتبادل الاتّهامات وتجيّش الاستعداء الذي يبلغ ذراه في مناطق التداخل الاجتماعيّ، تلك الأماكن التي تفقد ميزتها التي كانت نقطة قوّتها المتمثّلة في التعايش المشترك بعيداً عن الضغائن المستجلبة من أغوار التاريخ.
توصف الحاضنة أنّها تستقبل المنتمي إليها، تحتضنه، تهدهد خوفه، تعيد تأهيله للحرب القادمة، توفّر له أسباب الحماية وتدفعه إلى ضرورة النهوض بواجب الدفاع عنها، في عملية تبادل تهدئة وتأمين، فلا يعود المنتمي إليها يشعر بالأمان من دونها، وقد يداهمه شعور بالاغتراب في حال الانفصال عنها، وقد يعامَل كالمنبوذ من قبل المتعصّبين في المعسكرات المختلفة، بحيث يجد نفسه مرغما على العودة إلى ممارسات الحاضنة.
تكمن خطورة الحديث عن الحاضنة الاجتماعية في الخلط بين السلوك الفرديّ وإرجاعه إلى التفكير الجمعي، وتبرير القاعدة العسكرية “المكافأة فرديّة والعقوبة جماعيّة”، وهذا ما يزيد الهوّة بين أبناء المجتمع الواحد، ويبقي الخصام مستمرّا والشقاق مستعرا إلى إشعار آخر.
لعلّ ما يساهم في تذكية الأحقاد والأوهام بين المنتمين إلى الحواضن الشعبيّة المتعادية هو غياب الحواضن الثقافيّة، التي من شأنها تجسير الفجوات التاريخيّة وبناء جسور للعبور إلى المستقبل، عبر التخفّف من أثقال المراحل التاريخية التي يتوارث فيها الأبناء أحقاد الأجداد، ويدفعون ضرائب أفعالهم وممارساتهم، ويريقون الدماء في سبيل مآسٍ لم يكن لأحدهم يد فيها.

العرب اللندنية _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى