لم تتمكن الثورة السورية من تغيير النظام السياسي حتى اليوم، ولكن حملها الثقيل الذي يجعلها أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى التفاعل الدولي الإجباري مع مجرياتها وآثارها ومخلفاتها، يفتح الطريق أمام تغيير العالم الذي اشتكى ماركس يوماً من اكتفاء الفلاسفة بتفسيره.
قد يبدو الكلام لوهلة مبالغة لا تخلو من المركزية، لكن المتابع للترابط السببي والعلائقي بين مجريات أمور العالم يمكنه ملاحظة ما يلي:
1- لقد أُخضع السوريون خلال أربع سنوات للموت بكل صنوفه، ما تسبب بمقتل مليون إنسان تقريباً (إن افترضنا احصائياً أن من يموتون يومياً 75 شخصاً خلال 1300 يوم، ليس إلا)، وتهجير قرابة 11 مليون إنسان، يقترب عددهم في الخارج فقط من خمسة ملايين شخص حسب آخر إحصاءات الأمم المتحدة.
2- أدى خذلان السوريين والتنصل من حمايتهم، ومبادلتهم بصفقات كيماوية حصلت، أو نووية قيد الحصول، إلى ارتفاع التوتر السني – الشيعي اقليمياً، ثم مأسسة الإرهاب السني في دولة الخلافة (الباقية وتتمدد)، وخروج الإرهاب الشيعي عن حد «الدولة المضبوطة» في إيران نحو الدول غير المضبوطة في اليمن والعراق وسورية ولبنان، وذلك إن غضضنا النظر عن تحول الانفتاح والاعتدال التركي الصاعد سابقاً نحو الانكماش الأردوغاني غير الديموقراطي والذي لا يوازيه اليوم في طريقة الاحتفاظ بالسلطة مثل قيصر روسيا المريض بارانوئياً.
3- لم يصعد «داعش» إلا بعد كيماوي الغوطة، لكن دولة «داعش» التي يتهافت عليها المتطوعون كل أصقاع الأرض، حرّكت مُحقة المظلومية الإسلامية والسنية تحديداً في جميع الدول، وليس أظهر من كوزموبوليتيتها مثل أحداث فرنسا المفجعة الأخيرة، كأن يصبح مغني راب انكليزي أحد عرّابي هوليووديتها في قطع الرؤوس الغربية، والقلق الذي يجتاح شعوب أوروبا اليوم خوفاً من المسلمين وأسلمة الغرب.
4- تجعل العولمة الإرهاب الأصلي المتمثل بالأنظمة الديكتاتورية في العالم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً، والإرهاب الفرعي المتمثل بـ «القاعدة» وأخواتها، مشكلة عالمية عموماً و «مسيحية» خصوصاً، ففي تصنيف هنتنغتوني يمكن القول: إن احتفال «العالم المسيحي» بالخلاص من قرونه الوسطى وحده لم يعد ممكناً، فالشروط الاجتماعية السياسية الاقتصادية التي جعلته أقل اهتماماً بالدين والآخرة وأكثر احتفالاً بالدنيا وتقديساً للحياة، ما زالت مُفتقدة في عالم المسلمين، وليس مُجافياً للحقيقة أن الأنظمة المُؤطرة للعالمين المسيحي واليهودي تحمل وزراً كبيراً في منع المسلمين من مغادرة قروسطيتهم، وليس أدلّ على ذلك من دعم ومحاباة الصلف الإسرائيلي ودولته اليهودية أولاً. ثم، وإن غضضنا الطرف عن دعم الديكتاتوريات العربية قبل الثورات، فإن دعم بقاء وعودة الأنظمة بعد الثورات والصمت الرهيب عن المجازر المرتكبة في سورية تحديداً يُعد مشاركة حقيقية في منع نجاح الثورات الديموقراطية، وبالتالي منع الشعوب التي أرادت اللحاق بالعالم الحر والمتحضر من مغادرة تخلفها. وهنا نشير إلى أن كل المحاولات العالمية لحصر الكارثة السورية داخل حدودها نوع من رمي الطفل مع غسيله الوسخ وإرادة للتخلص، بقرف وتعالٍ، من مشاكلنا.
ليس ذلك ممكناً في عالمنا الواحد بأي حال، فخط التأثير في عصر العولمة لم يعد يتجه من المراكز إلى الأطراف كما في القرن الماضي، بل يسير أيضاً في الاتجاه المعاكس، ومشاكلنا باتت عالمية أيضاً، لا شيء سيمنعها من الخروج من الأطراف إلى المركز في عالم ما فـــوق الدول وما بعدها، وما قـــبلها أيضاً، الذي نعيشه.
نعيش في عالم واحد، والإرهاب الذي حصد اثني عشر فرنسياً، في ذمته مليون قتيل في سورية، وتأثير الإرهاب في أصله وفروعه لن يتمكن أحد من حصره في سورية المنكوبة وحدها. وإن لم يتمكن العالم من فتح طريق الحرية الذي أرادته الشعوب ثم بدأت تأكل نفسها بالتطرف عندما أغلقته الأنظمة المتحالفة في ما بينها، وإن لم يتخلص العالم من سلبيته القاتلة وخوفه من حريتنا، فإنه سيبقى أمام خيار شبه وحيد في التغيير، هو النزول إلى جحيمنا، بدل صعودنا إلى أرض حداثته.
الحياة _ وطن اف ام