مقالات

خليل العناني: الثورة المصرية من الحلم إلى الغضب

أربع سنوات مرّت على ثورة 25 يناير المجيدة، ولا يزال الحلم بإقامة دولة ديمقراطية حقيقة موجوداً وحياً في النفوس، على الرغم من كل محاولات وأده وقتله. وقد مرّت الذكرى الرابعة للثورة، وهي تحمل من الغضب والقهر والرغبة في الانتقام، أكثر مما تحمل من الحلْم والأمل والرغبة في التعايش. مرّت، وهي تحاول إعادة الحياة إلى نفوسٍ مزقها الانقسام والتعصب والاستقطاب، وأن تبعث البصيرة في ضمائر أممّها السلطان، واشترى صمتها ومداهنتها.

ليست الثورات خطاً مستقيماً يمتد بين بداية ونهاية، وإنما مسار متعرج، يصعد أحياناً ويهبط أحياناً أخرى. إنها عملية صراع وتدافع مستمرة بين القديم والجديد، بين الفاسد والنافع، بين الطغيان والعدل، بين القهر والحرية. صحيح أن القديم قد ينتصر، والفاسد قد يحكم، والطغيان قد يسود، والقهر قد ينجح، لكن ذلك كله مؤقت وغير دائم، لسبب بسيط، هو أن من ثار أولاً، بحق، سوف يثور ثانياً وثالثاً حتى يحقق هدفه، إن لم يكن اليوم فحتماً غداً.
تخبرنا الخبرة التاريخية أن معظم الثورات تمر بأربع مراحل، أولها “المد الثوري”، وهي المرحلة التي تعقب قيام الثورات، ويتم خلالها قلب الأوضاع رأساً على عقب، وتسقط فيها البنية السياسية القديمة، برجالها ورموزها، لكي تحل محلها بنى ورموز جديدة، تقوم على تحقيق أهداف الثورة وحمايتها. وخلال هذه المرحلة، ما لم ينجح الثوار في تطهير المؤسسات السلطوية، وإعادة هيكلتها وبنائها وفق رؤيتهم وأهدافهم الثورية، فإن فرص نجاح الثورة تتراجع، ويصبح الانقلاب عليها أمراً سهلاً ويسيراً من القوى الرجعية ومن يدعمها. وهو ما وقعت فيه، للأسف، الثورتان المصرية واليمنية، حين ظن الثوار، خطأ، أن النظام القديم سقط، وأن الثورة نجحت، بمجرد التخلص من رأس النظام. وتعاملت الثورتان بقدر عالٍ من الرومانسية وحسن النية مع مؤسسات النظام القديم وبقاياه، ما سمح لهما بالعودة مرة أخرى من أجل الانتقام.
المرحلة الثانية هي “الجزْر”، أو التراجع الثوري، وهي التي يخفت فيها المد الثوري، وتتراجع سخونته، في وقت تزداد فيه قوة الثورة المضادة وتماسكها. وهنا، تبدأ القوى الثورية في الانقسام والتفتت والتشرذم، إما نتيجة اختلاف رؤاها وأهدافها، أو لنجاح قوى الثورة المضادة في اختراقها وتشتيتها وتغذية انقساماتها. وخلال هذه المرحلة، تتمدد القوى السلطوية الرجعية، وتتراجع القوى الثورية التقدمية. وتحاول الأولى، بكل قوة، استعادة سيطرتها على مؤسسات الدولة وأدواتها القمعية، ولا تتهاون في استخدام كل أشكال العنف والقهر، من أجل حماية نفسها ومصالحها ومستقبلها. وفي الوقت نفسه، يجرى تشويه الثورة وكل ما، ومن يرتبط بها، باعتبارها مرادفاً للفوضى وعدم الاستقرار. وكلما نجحت الثورة المضادة، ورسخت أقدامها، تراجعت “الثورة” الأصلية. فكلاهما يسيران في مسارين متناقضين، وبأهداف لا تعرف التقارب أو التوافق.
المرحلة الثالثة هي “التوازن” الثوري، والتي تحاول فيها كلا الثورتين، الأصلية والمضادة، التعايش مع بعضهما، بدرجات متفاوتة، لعدم قدرة أي منهما على حسم الصراع لصالحها والتخلص نهائياً من الأخرى. وهنا، يحاول كل معسكر إعادة ترتيب أوراقه وأطرافه. لذا، تنشأ خلال هذه المرحلة تحالفات عديدة، وتُعقد صفقات قد يبدو بعضها، ظاهرياً، غير مفهوم، لكنها تحاول تحقيق الهدف النهائي لكل طرف. وهنا، تصبح المساومات السياسية أكثر الأدوات تأثيراً ونجاعة من غيرها، حيث يحاول كل طرف إدارة معركته بالنقاط، وليس بالضربة القاضية، قبل أن يحين وقتها.
“تظل تكلفة الحسم الثوري تظل باهظة جداً، ولا تتحملها المجتمعات التي قد ينزلق بعضها إلى صراع أهلي عنيف”
المرحلة الرابعة هي “الحسم الثوري”، أو مرحلة “الضربة القاضية”. وهي التي ينجح فيها طرف على حساب الطرف الأخر، ويقوم بفرض إرادته عليه وتركيعه، وربما ينهيه. وهي مرحلة يتضح، ويتمايز فيها، الخيط الأصلي للثورة من خطها المضاد. وفيها تتكشف الوجوه وتسقط الأقنعة عن الجميع، بحيث يبدو كل طرف على حقيقته دون مواربة أو غموض. وفى هذه المرحلة، تلجأ القوى الثورية ونظريتها من الثورة المضادة إلى كل أسلحتها المشروعة وغير المشروعة، لحسم الصراع لصالحها. أي أنها مرحلة لا تحتمل التفاوض أو المساومة، وإنما الحسم والإنجاز. لذا، قد تأخذ هذه المرحلة وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً يستنهض القوى كافة، ويستحضر كل الأدوات، وتتم تغطية كل التفاصيل، ويصبح معدل النصر مساوياً تماماً لمعدل الهزيمة. فهي معركة صفرية، لا تقبل القسمة على طرفين.
ولعل من نافل القول إن هذه المراحل لا تحدث، بالضرورة، في كل التجارب الثورية، أو أن تُستنسخ حرفيا من إحداها لأخرى. كما أنها ليست مراحل منفصلة، وإنما قد تتداخل أحياناً، وقد تتمايز أحياناً أخرى. وفي بعض الحالات، يتم الانتقال والقفز من المرحلة الأولى إلى الأخيرة، من دون المرور بالضرورة بالمرحلتين الوسطيين. فالمسألة ليست مجرد عملية حسابية لا تحتمل الخطأ، وإنما عملية صراعية، تتداخل فيها عوامل كثيرة، قد تغير حساباتها فجأة، ومن دون مقدمات.
وبالنظر إلى الثورة المصرية، وربما اليمنية كذلك، يمكن القول، بقدر من الثقة، إننا لازلنا في المرحلة الثانية من مراحل الثورات، وهي مرحلة “الجزْر”، أو الانحسار الثوري، والتي تتمدد فيها قوى الثورة المضادة، وتحاول جاهدةً ترسيخ أقدامها تمهيداً للدخول في مرحلة “الحسم” وإنهاء الثورة الأصلية. ولعل الأخطر فيما سبق أن تكلفة الحسم الثوري تظل باهظة جداً، ولا تتحملها المجتمعات التي قد ينزلق بعضها إلى صراع أهلي عنيف، ينهي الثورة، ويدفع الجميع ثمنه.

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى