مقالات

عمر قدور : المعارضة كـ”قاع” للثورة

لا يفتح الأداء الهزيل لما سُمّي وفد المعارضة في “منتدى موسكو” الباب على مدى ما تمتلكه شخصياته من حيثيات تمثيلية فحسب، بل يفتح الباب أيضاً على تمييع مفهوم المعارضة ككل، ولعل هذا هو أهم أهداف إدارة بوتين بالأصالة عن النظام السوري.

ومن المعلوم أن النظام سعى منذ بدء الثورة إلى تقسيم المعارضة، وتفصيلها على قياس مصالحه. فتارة كان يتحدث عن معارضة الداخل الوطنية مقابل معارضة الخارج العميلة، وتارة أخرى يتحدث عن معارضة متورّطة في الإرهاب مقابل معارضة سلمية، مع أنه في العديد من الحالات اعتقل شخصيات مما يعدّها معارضة مقبولة لديه. بالأحرى، ليس هناك معارضة مقبولة حقاً من نظام لا يتقبل الاختلاف حتى ضمن النظام نفسه، وقد حدث فعلاً أن اغتال النظام مجموعة من قياداته الأمنية العليا لإزاحتها من دائرة صنع القرار.
مفهوم النظام عن المعارضة وعن المشاركة السياسية لا يزال متوقفاً عند تجربته في ما كان يسمى “الجبهة الوطنية التقدمية”، وهي مجموعة من الأحزاب الهامشية المشاركة للنظام في فتات الحكم، وهي أيضاً مطروحة بوصفها معارضة. هذا هو أقصى نموذج للحل السياسي يقبل به الآن، وهذا هو النموذج الذي يسعى إليه الروس بشكل واضح أو بطرق ملتوية. ألتحالف المأمول الجديد لن يكون الآن تحت لافتة أيديولوجية على مثال الجبهة الوطنية، وإنما سيكون تحت لافتة مكافحة الإرهاب، وينبغي ألا نبخس منظّمي المنتدى حظهم من النجاح، لأن “المعارضين” الحاضرين تجاهلوا إرهاب النظام لصالح التركيز على “الإرهاب” المضاد له من دون تمييز بين جماعات إرهابية وجماعات مقاتلة.
بالطبع، لم ينجح منتدى موسكو في تسويق الحاضرين كممثلين عن المعارضة، لكنه نجح في إظهار تهافت شخصيات كانت إلى الأمس القريب تحسب نفسها على المعارضة والثورة. وإذ لا يستطيع أحد منح شهادات للآخرين تثبت مواقعهم، فهؤلاء موجودون فعلاً ضمن المعارضة، وهناك آخرون لم ينضمّوا إلى منتدى موسكو لكنهم ليسوا بعيدين من حيث التوجه أو الأداء عمّن حضر، وهناك بعض ممن لا تُعرف حقاً توجهاتهم السياسية لكثرة ما بدّلوا في مواقعهم وآرائهم، وربما الجهات الداعمة لهم. أي أن خلط الأوراق، في موضوع الانتماء إلى المعارضة أو الثورة، يعود تقريباً إلى بداية الثورة، ولمن يحسبون أنفسهم على المعارضة نصيب فيه قد يفوق محاولات النظام وحلفائه.
الاختلاف في حد ذاته ليس مذموماً، لكن أن تُحسب شخصيات وتيارات هي أقرب إلى النظام على المعارضة أو الثورة فهذه ربما تكون سابقة تُسجّل للسوريين. بل فوق ذلك، هناك شخصيات وتيارات لا يزال يُشار إليها بوصفها معارضة مشهودٌ لها بسكوتها على أفظع جرائم النظام، بما فيها مجزرة الكيماوي، وحتى إلصاقها جرائم النظام بقوات المعارضة. كأننا أمام حالة من الفصام لا يمتلك السوريين ما يفعلونه إزاءها، وكأن عليهم القبول بمعارضة الأمر الواقع مثلما كان عليهم سابقاً القبول بالنظام. وما يزيد الإشكال تعقيداً أن أولئك الذين يطرحون مواقف أكثر جذرية، ضمن المعارضة، لم يقدّموا أداء يُعتدّ به، بل تكشّف معظمهم عن ضحالة في الرؤية والأداء السياسيين، وطالت بعضهم شبهات الفساد، فضلاً عن انشغالهم بخصومات صغيرة لا ترقى إلى مستوى السياسة إطلاقاً.
ومن المعلوم أن المعارضة السورية اجتمع بعضها، ثم تفرق، ثم اجتمع بعضها الآخر وتفرق، في مناسبة الثورة، ومن دون أن يكون لمعظمها جهد في اندلاعها، وقد نُظر إلى شخصياتها على أنها الوحيدة المتاحة بحكم تجربتها السياسية السابقة، ومن دون النظر إلى فشلها السابق في معارضة النظام. أيضاً، نُظر على الأغلب إلى المعارضة الحالية كهياكل وشخصيات عارضة، حيث لم يكن متوقعاً أن تطول المعركة مع النظام إلى هذا الحد، وتالياً لم يكن منتظراً منها وضع استراتيجيات سياسية أو استراتيجيات مقاومة شعبية. ولما لم يسقط النظام سريعاً ظهر تهافت أداء المعارضة أسرع مما كان متوقعاً، وكلما طال أمد بقاء النظام تنكشف معارضته عن علل وأمراض لا تليق بثورة السوريين أو تضحياتهم.
المفارقة الفاقعة هنا أن ينقسم العالم بين مَن يرى ثورة السوريين من خلال المعارضة، ويكون من حقه نسبياً عدم احترامها، وبين مَن يميز الثورة من المعارضة فلا يتفهم المسافة الشاسعة بينهما، إذ لا يحق لنا مطالبة الآخرين بتفهم وضع شاذ لا يجد له معظم السوريين تبريراً. ما يزيد عمق المفارقة أن النظام الذي ادّعى تمثيل السوريين خلال عقود لم يقترب يوماً ليشكّل أو يكون “نخبة” سياسية، على غرار ما هو معهود في الأنظمة الديمقراطية، بل كان بطبيعته الاستبدادية طارداً للكفاءات، إلى أن تكشف في مناسبة الثورة عن أنه نظام شبيحة وبلطجة لا أكثر، بمعنى أنه يمثّل أسوأ ما في القاع الاجتماعي السوري. أن يحكم القاع سوريا حوالى نصف قرن، يزداد انحطاطاً خلالها، فذلك مدعاة لتفكير جدي. أما أن تكون المعارضة، على الصعيدين المبدئي والأخلاقي وحتى على صعيد الكفاءة، بمثابة قاع للثورة بقيمها وأخلاقياتها وكفاءات شبابها فهذا مدعاة لتفكير أعمق وأكثر إلحاحاً، إلا إذا كنا ننتظر الحل من الحوار بين قاعين.

المدن _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى