لا يمثل تحرير عين العرب/ كوباني، نصرا لقوات التحالف الدولي، أو نجاحا في استراتيجية محاربة داعش والنصرة، لكنه إنجاز للقوى السورية المقاتلة على الأرض، التي أرغمتها بفعل المواجهة على الانسحاب، وترك المدينة المنكوبة وقد تحولت في معظمها إلى ركام، تسببت في معظمه عمليات التحالف الدولي، التي ما تزال حتى اليوم، وبعد مرور خمسة أشهر، مثل عزف منفرد في ريح البراري العاصفة، لم تؤثر فعليا على تحجيم تنظيم داعش في سوريا بشكل خاص، باستثناء الضربات الموجعة لرتل في ريف حلب قبل يومين، لكنها بطريق الخطأ، أيضا، استهدفت مدنيين في مناطق عدّة من مدن وأرياف البوكمال وإدلب وحلب والرقة، فأضافت سببا جديدا للتهجير.
في كل الأحوال، لم تستطع عمليات التحالف الدولي أن تمنع تنظيم الدولة الإسلامية من ارتكاب جرائم بشعة، حيث يحكم سيطرته في الشمال السوري، وكان آخرها إعدام الصحفي الياباني كينجي غوتو.
وشهدت المدن والبلدات حالات إعدام فردية وجماعية لشبان سوريين، وكذلك حالات رجم وصلب، إضافة إلى استمرار اختطاف عشرات النشطاء المدنيين، من أطباء وصحفيين وحقوقيين وكتابا وعاملين في الحقلين السياسي والإغاثي.
ولم تبذل القوى الإقليمية أي جهد يذكر لوقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الأفراد والجماعات وحماية المواقع المسجلة، كتراث إنساني عالمي، من النهب والتخريب. فيما تمعن داعش في عمليات التجويع، لإرغام السكان المحليين المدنيين، على الخنوع لها كما يحدث منذ عدّة أيام في منطقة عين عيسى، شمال الرقة.
صحيح أن تنظيم الدولة، يعيش صراعات داخل صفوفه، يصوّره البعض على أنه تململ إلى درجة التمرد، وهو يتنافى مع المعتقد الذي دفعهم للانضمام إلى داعش. فيما يبدو أنه صراع على السلطة، بين أجنحة التنظيم المعروفة: “الأنصار” و”المهاجرين”، على خلفية الاختلاف حول قضايا عديدة منها قضية الكساسبة /الريشاوي. ولعلّ انعكاس هذا الصراع على أهالي المنطقة، هو الأكثر إيلاما، مع تجاهل مستمر من المجتمع الدولي، ومجتمع المعارضة السورية، لمعاناتهم وآلامهم.
استطاعت داعش استغلال الحملة الدولية ضدّها، فتمكنت من تحقيق هدفين أساسيين، هما إعادة بناء استراتيجية التعامل مع القوى الدولية والإقليمية، وبالطبع وضع خطط اتقاء الضربات الجوية، والثاني تعزيز بنيتها الداخلية، من حيث الضبط التنظيمي، ومواجهة القلاقل في المناطق المحتلة من قبلها، بسطوة أشد، باعتبارها تواجه حلف “كفرة” يستهدف مشروع بناء الخلافة الإسلامية. وقد أكسبها ذلك قوة كلاعب أساسي في المنطقة من ناحية، والتفافا عصبويا اجتماعيا من ناحية ثانية، حتى وإن كان التنظيم فاقدا في الجوهر للحاضنة الاجتماعية الحقيقية، وليست القائمة على الخوف والقهر.
هذه الصورة تتطابق، تماما، مع استغلال النظام بقدرة متواترة لكل الظروف الدولية، بما فيها التحالف الدولي، ليعزز مكانته ودوره كنظام يتعرض لهجمة إرهاب واسعة وشاملة، وأن كل ما يقوم به ينسجم تماما مع التوجه الدولي في محاربة الإرهاب. وكلا الطرفين ليست ثمة مواجهة بينهما، وضحايا المجازر والممارسات الإجرامية هم السوريون المدنيون، في كل المناطق التي يسيطران عليها ويحيلان الحياة فيها إلى خراب عميم، دون أن يجد الطرفان من يردعهما عن الاستمرار في ذلك كما يجب حتى اليوم.
لا زالت أوراق التحالف الدولي غامضة، فيما لا تزال واشنطن تمارس سياسة أقرب إلى التعاطي مع الوضع في المنطقة من ثقب الباب، فلا هي استطاعت أن تضع استراتيجية فعّالة لضرب داعش من جذورها، ولا تمكنت من إرغام القوى الدولية والإقليمية المساندة للأسد، على الذهاب جديّا في عملية التسوية السياسية، التي لا ترى واشنطن وعواصم القرار الدولي، بديلا عنها.
ويبدو أن لقاءات القاهرة وموسكو كانت عاملا إيجابيا في خطف الأضواء، مؤقتا، عن فشل التحالف الدولي في تحقيق إنجازات مباشرة على الأرض.
وسيبقى الحال كذلك ما لم تعيد واشنطن رسم استراتجياتها استنادا إلى عاملين أساسيين هما: معالجة قضية الإرهاب بصورة جذرية في المنطقة، أي مسبباتها، وهي نظام الأسد، ووجود تنظيم القاعدة ومشتقاته. والعمل على دعم المعارضة والتنسيق معها في محاربة الإرهاب المزدوج المصدر: داعش والأسد.
ولا شك في أن الشعور بالخذلان من قبل المجتمع الدولي وبالضعف في مواجهة استبداد الأسد ومجازره اليومية، يشكلان عاملا مهمّا في دعم داعش والنصرة. وفي الحقيقة فإن المجتمع الدولي الذي لم يكترث لمجازر نظام الأسد في سوريا عام 1982، لن يدفعه حجم عمليات الإبادة المنظمة، اليوم، إلى اتخاذ أي موقف يوقف القتل، ويدفع بالقتلة كمجرمي حرب إلى المحاكم الدولية.
الواقع، أن واشنطن تنظر إلى الدورين الإيراني والروسي، في محاولة خلق مسار جديد للتفاوض، وفق رؤيتهما لحل الأزمة السورية من زاوية المصالح الأميركية المتصلة بمباحثات النووي الإيراني، وفي الضغط الذي تمارسه عبر الاستمرار في خفض سعر النفط، الذي يشكل عامل ضغط كبير على القوى الدولية التي تريد واشنطن إضعافها، وبشكل خاص روسيا، مع توكيل الملف السوري لها.
وما لا شك فيه أن تراجع الاهتمام الأميركي بما يحدث في سوريا بصورة مباشـرة، يجعل من أي مبادرة أو جهود دولية غير ذات أهمية، ويلاحظ أنه منذ إعلان باراك أوباما قبل نحو عام عن توجّهات إدارته في السياسة الخارجية الأميركية، دخلت المسألة السورية في الركن المهمل، وشهدت عاما من جمود المشهد السياسي وتراجع في العمل الدبلوماسي، مع صعود غير مسبوق لمؤشر استخدام العنف ضد السوريين، دون استثناء. ولم تستطع الجهود المبذولة الدفع باتجاه التسوية السياسية، أو حلّ مشكلاتٍ حيوية، مثل قضايا اللاجئين، وما يستتبع ذلك في التعليم والصحة، إضافة إلى مشكلات اجتماعية وثقافية تفرض وجودها بقوة كناتج لتطورات القضية – الأزمة.
يتمدد كلا الطرفين، نظام الأسد وداعش، بوصفهما تنظيمين إرهابيين في ممارساتهما اللاإنسانية ويمعنان في القتل، وفي تدمير البنى الاجتماعية والثقافية لما تبقى، بفعل الحرب التي يتشاركان في شنها على السوريين، في تبادل للأدوار وتكامل للنهج الإجرامي، الذي يبرز تناقض المجتمع الدولي في رؤيته للسلم والأمن الدوليين، ومحاربة الإرهاب، وترك السوريين هائمين حائرين كل هذه السنوات.
العرب اللندنية _ وطن اف ام