الأردنيون غاضبون، لو وقف بينهم عاهلهم ودعاهم إلى حرب لا تتوقف إلا في الموصل لاستجابوا له. لقد وعدهم عبدالله بن الحسين برد قاس على «داعش»، في اجتماع له الأربعاء الماضي مع أركان قواته المسلحة، في إشارة إلى نيته الصريحة على تصعيد عسكري في الحرب المعلنة على هذا التنظيم المتطرف.
ولكن كيف ومتى ومع من؟ لا نحتاج إلى خبير عسكري لنعرف أن أي حرب برية تضمن الانتصار على تنظيم «الدولة الإسلامية» وتقضي عليه وتحرر المناطق التي يسيطر عليها لا يمكن أن تكون من دون المرور عبر أراضي «أمير دمشق» بشار الأسد الذي لم يعد رئيساً للجمهورية العربية السورية، والتي لم تعد فعلياً موجودة، وإنما إمارات مقسمة بينه وبين آخرين، فهل يمر الجيش العربي الأردني وحلفاؤه بتوافق معه أم بالتغلب عليه؟
يبدو حديثنا وكأننا عدنا إلى زمن آل زنكي وصلاح الدين وتدافع إمارات حلب ودمشق والرها، زمن نحتاج أن ننزله على واقع زماننا وعلاقاته الدولية والإقليمية. لا بد أن ثمة تحالفاً إقليمياً يتبلور من أعداء «داعش» الذين أدركوا أنهم لا يستطيعون تحمل كلفة وجود هذه «الدولة» الغريبة الخارجة على المألوف ديناً وسياسة، والتي أصبحت حاضنة للعنف والإرهاب. جريمة حرق الطيار الأردني الأسير معاذ الكساسبة جاءت صادمة ومنبهة لوضع ما كان أصلاً يجوز قبوله واستمراره، ولا الرضا بتلك الحرب المحدودة التي أطلقها تحالف جدة قبل أشهر ضد «داعش».
لا بد أن أحداً ما يقول الآن: لا بد من فعل شيء أكبر مما اتفقنا عليه في جدة في أيلول (سبتمبر) الماضي فهذه الجريمة الصادمة يمكن أن تتكرر مرة أخرى. ما الذي يضمن ألا تسقط طائرة أخرى؟ أو حتى أن يعمد «داعش» إلى اختطاف سعودي يزور تركيا ويحمله إلى «أراضيه» ويزعم أنه رجل استخبارات، فيفاوض عليه، أو اختطاف أردني من داخل الأردن! «داعش» لا يعتد بأخلاق الحرب، إسلامية كانت أم أممية، إنه تنظيم إرهابي يزعم أنه دولة ويتصرف وأفراده كذلك في حال متردية ومنحطة لو تركت لجرت المنطقة وأهلها إلى هذه الحال المتخلفة.
ولكن مرة أخرى، كيف يمكن أن يحارب الأردن ومعه دول المنطقة تنظيم «داعش» وأن ينتصر عليه، ثم يعيد بناء المنطقة بشكل يمنع ظهور «داعش» آخر؟
البداية يجب أن تكون من سورية، أو مما تبقى منها في يد «أمير دمشق». يجب أن يخرج بشار الأسد من الصورة ومن أي ترتيبات مستقبلية. الحرب ضد «داعش» يجب أن تمر فوق بشار ودولته، فالداء «الداعشي» بدأ هناك، ولا توجد حلول سهلة لسورية، فلا بد من حرب قاسية ضد بشار و«داعش» معاً، فتركهما أقسى وأمر، وقد أثبت الزمن ذلك، لذلك يجب البحث عن حلول من خارج الصندوق، مع التركيز على معضلة سورية الأساسية، وهي مرحلة التحول ما بعد الأسد وما بعد «داعش»، إذ التخوف من استمرار الانهيار هناك، لغياب الثقة في قيادة سورية قادرة على توحيد الأطياف كافة وقادرة على مواجهة الجماعات المتطرفة وما سيتبقى منها بعد سقوط «داعش».
أي حل حقيقي لسورية لا بد أن يتجاوب مع الشروط الأساسية الآتية: إيجاد قيادة سنية معتدلة لها مشروعية حقيقية يمكن بسطها للحفاظ على التراب الوطني السوري، تستطيع مواجهة أو احتواء أية مجموعات متطرفة، وضامنة لأمن وحقوق الأقليات، ومقبولة دولياً، تضمن منظومة الأمن الإقليمي مع دول الجوار. هنا يبرز دور كبير جداً يمكن للأردن أن يلعبه لمعالجة الأزمة السورية بشكل فعال، فالملك عبدالله الثاني، الذي يحظى باحترام كبير بوصفه زعيماً معتدلاً، يمكن أن يُمنح من خلال توافق عربي ودولي تحت مظلة الجامعة العربية والأمم المتحدة حق الوصاية (custodianship) على سورية لمرحلة انتقالية، بحيث يضمن العالم وجود القيادة القادرة على إدارة التحول الآمن في سورية، فللعاهل الأردني سابقة في ذلك، بحصوله على حق الوصاية على المقدسات الإسلامية في القدس.
لماذا نلجأ إلى فكرة من خارج الصندوق كهذه؟ لأن أطراف الأزمة السورية يتبعون المقولة الشهيرة لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل: «إذا كنت تسير خلال الجحيم فتابع السير» (if you’re going through hell, keep going). الجميع يرفض الاعتراف بأن أزمة سورية باتت «لعبة صفرية» (zero-sum game).
الشعب السوري يعاني من مأساة حقيقية نتيجتها حتى الآن أكثر من ربع مليون قتيل، وأكثر من نصف الشعب بين لاجئ ونازح، وتدمير كامل للبنية الأساسية التحتية والإنسانية والسياسية. ومن غير ضغط حقيقي من القوى الكبرى، سيكون من السذاجة الظن بأن أية مفاوضات في موسكو أو جنيف ستوفر أكثر من مجرد وسيلة لإدارة الصراع (conflict management) بدلاً من توفير حل حقيقي له (conflict resolution). فالنظام وحلفاؤه أعلنوا بعناد، ومن دون أي احترام لحقوق الشعب، التمسك ببشار الأسد الذي ثمة اتفاق على أنه إما فاقد للشرعية وإما غير قادر على استعادتها، فليس هناك ما يدفع للظن بأنه مستعد للتنازل طوعاً في الوقت الذي تقوم فيه قواته الجوية بقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة. لقد أخفت جرائم «داعش» جرائم بشار التي لا تقل عنها بشاعة، بل إنها أفدح في تعداد ضحاياها. إن دعم إيران و«حزب الله» له يقوض أية فرص للحل في ظل عدم التكافؤ مع المعارضة التي تخلى عنها المجتمع الدولي في اللحظة الحاسمة.
يريد بشار وحلفاؤه أن يحول الثورة السورية في مخيلة العالم، من ثورة شعب ضد نظام مستبد، إلى حرب على الإرهاب، على رغم تحذيرات المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول الداعمة للثورة السورية بشكل متكرر من أن عجز النظام الدولي وتردده في التدخل وحسم الصراع لمصلحة الشعب سيؤدي إلى الفوضى، التي ينتعش فيها الإرهاب الذي يريده النظام لتشويه صورة الثورة وأهدافها، وللأسف ابتلع البعض هذا الطعم بفضل أفعال «داعش» القبيحة وكأنه مسرح معدّ له بينهم وبين بشار وحلفائه.
إن فشل المعارضة المعتدلة في تحقيق انتصارات، بل حتى خسارة بعض المناطق المحررة لـ «داعش»، يعود إلى أسباب عدة، أهمها العجز الدولي عن دعمهم بالشكل المطلوب، ولكن يجب ألا يشوش ذلك الرؤية تجاه الخيارات الصحيحة للتعامل مع الأزمة.
سورية في حاجة إلى التغيير، والسوريون المتضررون منذ أربعة أعوام مستمرة من الصراع الدموي أكثر من يعي هذا، وعلى رأسهم الأقلية العلوية نفسها التي باتت ترى أن النظام يستخدمها درعاً للحفاظ على نفسه، وقد يكونون أول من يؤيد حدوث تحول في سورية والتخلص من نظام الأسد في حال ترافق هذا الأمر مع الضمانات اللازمة في ما يتعلق بأمنهم ومصالحهم بوصفهم أقلية سورية، في حال اعتماد العالم حلاً جاداً مثل «الحل الأردني» الذي يضمن استيفاء جميع الشروط التي تعبر عن تخوفات السوريين والمجتمع الدولي تجاه المستقبل، إذ توفر «قيادة انتقالية معترفاً بها ولها علاقات دولية قوية مع الغرب، نابعة من المنطقة وأبنائها وليس من خارجها، بقيادة شخصية ذات مرجعية سنية تضمن مطالب الغالبية، كما أنها قيادة معتدلة قادرة على إعطاء الضمانات الكافية لكل الأطراف، وأخيراً توفير الضمانات المتعلقة بأمن إسرائيل بشكل يلغي التخوف من احتمالات فوضى ما بعد الأسد عليها».
ما يعزز فرص نجاح العملية الانتقالية أن الجهات الإدارية والأمنية الأردنية التي ستتولاها خبيرة بدواخل الشأن السوري، ولا بد أنها باتت متحمسة للعب هذا الدور بعد جريمة حرق الكساسبة المروعة والتي حشدت دعماً شعبياً لأي تدخل أردني، وخصوصاً إن حصل على دعم ومشاركة عربية ودولية.
حرب برية ضد «داعش» مكلفة ولا شك، ولا أحد بالطبع يريد الحرب، ولكن هل نملك حق الاختيار؟ إن لم نفعل فالقادم أسوأ.
الحياة _ وطن اف ام