مقالات

معن البياري : مذبحة حماة في روايتين

اكتملت، الأسبوع الماضي، ثلاثة وثلاثون عاماً على المذبحة التي اقترفها نظام آل الأسد في مدينة حماه السورية، لا تعداد مؤكداً وموثقاً لأسماء كل ضحاياها، وإن لا يقلون عن 30 ألفاً. والمقتلة الراهنة التي يواظب النظام نفسه، غاصب السلطة في دمشق، على اقترافها بهمّةٍ موصوفة، منذ أربع سنوات، موصولة بتلك المجزرة الفظيعة، وبما سبقها وتبعها من تنكيل بالوطن السوري وأهله.

ولأن الأمر كذلك، فإن حضور تلك المذبحة في إبداعات أدبية يكتبها روائيون وقصاصون سوريون عن ثورة شعبهم وأوجاعه وآلامه، يبدو طبيعياً، وإذ نطالع إشاراتٍ إلى تلك الجريمة الكبرى، في بعض النصوص، بالإيحاء العابر أو المرور الموفق، كما في روايتي عدنان فرزات (كان الرئيس صديقي، 2013) وابتسام تريسي (مدن اليمام، 2014)، فإنها كانت مركزية في وقائع روايتين حاذقتين، صدرتا في غضون السخونة الحارقة للراهن السوري الدامي.

الأولى (عصي الدم، دار الآداب، 2012)، وكاتبتها منهل السراج تكاد تكون روائيّة حماه الأبرز بين الأدباء السوريين. ينشغل عملها هذا بعائلة حموية وحكايات أفرادها، وهم خمس بنات وثلاثة شبان، وباستعاداتهم فظاعة المجزرة غير المنسية، وإنْ للرواية بطلة رئيسية، حموية كما الكاتبة. تقرأ في الرواية سؤال محقق الأمن وحيرته: “أين يذهب بكل هذه الجثث؟”. وتقرأ عن تدمير حماه بالكامل، “استحالت فارغةً، بائسة مقهورة، لا فرق فيها بين الصراخ والبكاء والرجاء والتعنت والصمود”. وتقرأ أيضاً “يُقاد المواطن كنعجة، والجزار يقوم بالذبح باعتياد، فإذا كانت النعجة تذبح لبضعة كيلوغرامات من اللحم، فإن المحقق يستثقل حتى عبء أجساد الضحايا”. لا تُعنى الرواية بمقتلة فبراير/شباط 1982 كواقعة تاريخية، وإنما باعتبارها حادثة مركزية، بمحو أحياء بكاملها لمدينة حماة، وما لذلك من معنى، متصل بمصائر شخصيات الرواية وأقدارهم، وهم الذين تشتتوا، في مسارات السرد في عمل منهل السراج الذي تواصل فيه ما يمكن حسبانه مشروعاً إبداعياً لديها عن حماة، يضيء أيضاً على سورية وتحولات الصراع فيها بين الشعب والسلطة القاتلة. فقد جاءت الكاتبة على ذلك في أعمال لها سبقت (عصي الدم) التي يُستعاد فيها مشهد الموت الكثير في حماه، منبعثاً من اشتعال الثورة السورية في مارس/آذار 2011. 

الرواية الثانية (السوريون الأعداء، دار رياض الريس، 2014)، وكاتبها فواز حداد من أبرز من كتبوا عوالم دمشق، غير أن سورية كلها، اجتماعاً وسياسة وغيرهما، ماثلةٌ في منجزه العريض (12 رواية) في تعبيرٍ فني ثري، عكس تحولاتٍ ظاهرة في المشهد السوري العام، المثقل في أبرز حالاته بوطأة القمع المريع. وهذه الرواية الجديدة، ذات النزوع الملحمي في سردها المسترسل، تلتفت إلى الراهن السوري الذي يثور، في غضونه، الشعب على سلطة الاستبداد الجائرة، ولكن، باتصال هذا الراهن بسيرورة القتل والتسلط والفساد الثقيلة الطويلة. ومن محطاتٍ عديدة في هذا كله، ثمّة المقتلة المعلومة في حماه، وفي أثنائها “ربما كانت النواعير بدورانها اللامبالي الشاهد الكثيف على ما عاناه أهلها من فظائع وتنكيل”، على ما جاء في الرواية التي نقرأ فيها أيضاً “الزاوية الكيلانية سويت بالأرض، الجرافات لم توفر حتى القبور، عظام أمواتنا طحنت بترابها، أجساد قتلانا ذهبت بها الشاحنات إلى مقابر جماعية”. ونقرأ عن حماه أيضاً وأيضاً “الإعدام تم ببساطة، انصرف الجنود إلى الطعام، والأموات إلى الموت”.

الاستخفاف بحياة الآدميين السوريين، والاستهانة بكراماتهم، هما الهاجسان الأكثر خفاء وتجلياً (التعبير لأستاذنا كمال أبو ديب) في هذا العمل الروائي الحار، في انشغاله بتدمير السلطة في سورية المجتمع، بكل جبال الفساد التي يبنيها فواز حداد في صناعته معماره السردي عن سوريين أعداء لسوريين. حاضرةٌ فيه ثورة هذا الشعب، بغياب تفاصيلها اليومية. وحاضرة في الكتابة عن ضحايا كثيرين، تعبر بينهم جثث مجزرةٍ، مرّت ذكراها، الأسبوع الماضي، عرضاً.

العربي الجديد _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى