تراجع مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية عن كوباني، واستمر تراجعهم، حيث بدأوا يخسرون القرى الكثيرة المحيطة بها، واحدة تلو الأخرى. لكن الحضور الإعلامي الطاغي لم ينحسر، ليس بفضل تقوى التنظيم، وورع رجالاته، ولا بفضل تمسكهم المفرط بأهداب الدين، ولكن بخبرة بضعة مصورين يمتلكون كاميرات حديثة عالية الدقة، توضع بزوايا ملائمة لتقديم فرجة مثيرة، تدخل عميقاً في الجهاز العصبي، وتبقى هناك مدة طويلة.
غطى فيديو حرق الطيار معاذ الكساسبة على أخبار الهزائم في كوباني وما حولها، وهذه وضعية تتيح الدخول إلى جوهر التنظيم الاستعراضي، باعتباره يتبنى “عدة” إعلامية حادة الملامح، وخطاباً دينياً باذخاً مأخوذاً من بطون كتب التاريخ، وهي بضاعة رائجة، في ظل الكساد الثقافي والمعرفي والحضاري السائد في بلاد العرب والمسلمين.
يدل خطاب تنظيم الدولة الإسلامية المعتمد، بقوة، على الصورة، وعلى التلاعب بالانفعال، على أنه تنظيم أصلي نابع من تراث المنطقة، فهو يرتكز بقوة على المكون العاطفي للجمهور، ما يقسم الموقف منه إلى قسمين كبيرين. يظهر الأول في المساندة والدعم القويين اللذين يصلان إلى حد الانخراط في صفوفه، ويتجلى الثاني في العداء الشديد الذي يصل إلى حدود مواجهته.
تموضع التنظيم في الفراغ الذي تركه النظام السوري وراءه، وتمدد كالأجسام المائعة في كل مكان فارغ، استطاع أن يحفر أقدامه فيه، ويثبتها، ثم خاض حروباً شبه مضمونة النتائج، بمهاجمة مجموعات صغيرة، أو تجمعات عسكرية معزولة ومنهكة، من مخلفات النظام، وأظهر، عن قصد، فظائع أطلق عليها مسميات دينية، فخلق، بذلك، شارعه الخاص المتعطش للفرجة.
وجدت القوى العالمية في التنظيم، وعلى غرار ما وجدت من قبل في القاعدة، مفرخة إرهابية نموذجية، لكنها لم تستخدم الخطة التي اعتمدتها مع القاعدة، بالتعامل البري المباشر، ففضلت، هذه المرة، أن تستخدم سلاحها الجوي، وتتكل على مجموعة من الحلفاء المحليين، العراق ودول الخليج والكرد، وإلى حد ما إيران. وظنت أميركا أن هذه الطريقة ذات جدوى اقتصادية وسياسية، فهي تتعامل مع التنظيم عبر ارتداء القفازات، ما لن يكلفها الثمن الباهظ الذي دفعته، عندما واجهت القاعدة.
جرى تطبيق الخطة، وباشرت طائرات التحالف عملها، وتم تسليح الكرد، وإعادة تنظيم الجيش العراقي، بإضافة مجاميع سنية محلية، لكيلا تأخذ مواجهة داعش شكلاً طائفياً، بارتداء الثوب الشيعي (السادَه). نتج عن هذه الاستراتيجية كسب في كوباني وسنجار، بعد قصف استمر أشهرا، وشلال من المساعدات العسكرية للكرد. ولكن شريط فيديو، مدته خمس وعشرون دقيقة، غطى على كل ذلك.
لم تأخذ أميركا تنظيم الدولة على أنه “دولة”، تشكل تهديداً جغرافياً وثقافياً، بل تعاملت معه على أنه خطر آخر، ربما يوازي فيروس إيبولا، فاكتفت بتوجيه ضرباتها الجوية إلى أهداف منتقاة، وخلقت تحالفاتُها على الأرض خلافاتٍ مع حلفاء آخرين، فطالت معركة كوباني بما يفوق مساحتها وأهميتها، وتأخر مشروع تدريب عناصر “منتقاة” من المعارضة السورية، وربما ألغي التدريبُ، بسبب التباين في تطلعات أميركا وتركيا، باعتبار أن أميركا تتغاضى عن فكرة سقوط الشرعية عن بشار الأسد، حالياً، وتعطي الأولوية لمواجهة تنظيم الدولة، فيما تصر تركيا على أن بشار هدف أساسي وأصلي، ويجب أن يكون إسقاطه أولويةً، تسبق أية مهمة أخرى، ولو كانت تنظيم الدولة الإسلامية نفسه.
عوامل استمرار الدولة الإسلامية كثيرة، وربما تزداد بازدياد الوقت، وقد تكون خسارتها معاركها الأخيرة جزءاً من حروب الكر والفر التي تعيشها المنطقة، منذ خروج العثمانيين. وتحتاج مواجهة التنظيم دعامة “بنيوية”، تعمل على مستويات الوعي العميقة. ولعلنا بحاجة إلى ما هو أكثر من الهجوم الجوي، وحتى الاجتياحات البرية، فتذويب المنصّات التي يقف عليها التنظيم المتطرف والتنظيمات المشابهة، وهي منصات تقوم على فقدان الهياكل الوطنية، لصالح انتماء محلي أو ديني، سيكون مفيداً جداً، لكنه، بالطبع، بحاجة إلى الوقت الذي لا نمتلك منه الكثير.
العربي الجديد _ وطن اف ام