مقالات

إياد الجعفري : حرب الجنوب واستنساخ القلمون

قبيل موسم الشتاء المنصرم أطلق “محور الممانعة” حملة إعلامية مكثفة عن حربه المُرتقبة في مناطق القلمون السوري، وعن أهميتها وضرورتها لحفظ أمن الجبهة الشرقية للبنان، وقطع التواصل بين فصائل المعارضة في القلمون وبين نظرائها في ريف دمشق، مما يعزز قدرات النظام السوري في حماية العاصمة من نطاقها الخارج عن سيطرته. كانت الفصائل المناوئة للنظام التي تسيطر على معظم القلمون حينها، تتكون بصورة أساسية من “جبهة النُصرة” ومن فصائل من الجيش الحر من أبناء المناطق هناك.

وبالفعل شهد مطلع الشتاء الماضي حرباً عنيفة لحلفاء النظام، كانت الميليشيات الشيعية العراقية، ومقاتلي حزب الله، الركيزة الرئيسية فيها، بحيث تمت السيطرة على معظم مدن القلمون السوري، واعتُبر ذلك حينها أبرز إنجاز للقوى الحليفة. حتى نهاية فصل الشتاء، وخلال شهور فصل الصيف المنصرم، تهلهلت سيطرة النظام وحلفائه على المناطق التي سيطروا عليها، وانحصرت تدريجياً لتتركز في المدن والبلدات الرئيسية، بحيث فقدوا من جديد الجرود والمناطق الجبلية الوعرة لصالح تنظيمات مناوئة، بعضها عاد من جديد، كجبهة النُصرة، وبعضها حل مكان أخرى زائلة، ونقصد به تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وعاد التهديد الذي تمثله التنظيمات المناوئة لنظام الأسد، والمتشددة منها تحديداً، ليُطل على الجبهة الشرقية للبنان، من منطقة القلمون، وذهبت معظم جهود حملة الشتاء المنصرم هباءاً، رغم كل الدعم الإعلامي والمعنوي الذي تلقته. وباستثناء تأمين الجبهة الشمالية للعاصمة، والطريق الدولي الواصل بين دمشق وحمص والبلدات الرئيسية المطلة عليه، باتت بقية مناطق القلمون الجبلية الوعرة وكراً آمناً لمناوئي “محور الممانعة”، ومنطلقاً لهجماتهم وعملياتهم وفق منطق حروب “الكر والفر” من دون الاحتفاظ بأية مواقع ثابتة في السهول والمناطق المكشوفة، على خلاف السابق. اليوم، يكرر “محور الممانعة” في سوريا، وفي جبهتها الجنوبية تحديداً، قصة القلمون نفسها، من حيث التعبئة الإعلامية والمعنوية، والعسكرية، لتحقيق إنجاز عسكري جديد، قد يذهب ضحيته المئات من مقاتلي هذا المحور، خاصة من اللبنانيين والعراقيين، وربما الإيرانيين، منهم أيضاً. والرهان هذه المرة على ضمان أمن المداخل الجنوبية للعاصمة، والريف الغربي لها، على أمل استعادة السيطرة، مرة أخرى، على الشريط الحدودي مع إسرائيل، واستعادة ورقة أمن حدود إسرائيل. وكما في المرة السابقة، يقاتل “الممانعون” بصورة رئيسية، “جبهة النُصرة”، وفصائل من الجيش الحر من أبناء المناطق هناك، في تكرار سمج لسيناريو القلمون السوري. فكلما تلقى الجيش الحر، بفصائله “المعتدلة”، إلى جانب جبهة النُصرة، الضربات من جانب قوات النظام وحلفائه، حل مكانهم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ليجد “الممانعون” أنفسهم أمام الجبهة ذاتها، مرة جديدة. فهل يمكن وصف استراتيجيات “الممانعين” بالعبثية؟…ما دامت القوى العسكرية التي يرسلونها لا تملك قدرة الاحتفاظ بالأرض، أو بمعظمها، فما الغاية بعيدة المدى من هذه الحرب؟ ربما أجاب المبعوث الدولي، ستفان دي مستورا، عن التساؤل السابق، في تصريحه المثير للجدل، بأن “الأسد جزء من الحل”. فالقضية بالنسبة لـ “محور الممانعة” في سوريا، ليس هزيمة المعارضة أو المناوئين للنظام، فذلك بات بحكم “المستحيل”، بناء على التجربة المشهودة خلال السنتين الأخيرتين. بل القضية بالنسبة لهم هي منع هزيمة النظام، كي يكون، برأسه، بشار الأسد، جزءاً من التوليفة التي ستشكل الهيئة الحاكمة بسوريا المستقبل، وبالتالي، يضمن “محور الممانعة” الحفاظ على أقدامه بالداخل السوري. منع هزيمة النظام، هو الانتصار وفق الفهم غير المعلن لمحور “الممانعة”. فالقابع في طهران، ذاك الذي يُدير المعركة بسوريا، بات يدرك، دون شك، بعد أكثر من ثلاث سنوات من الدعم غير المسبوق لنظام الأسد، بأن حسم المعركة بسوريا، لصالحه، لم يعد في إطار الأهداف الممكنة. وباتت القضية بالنسبة لصانع القرار الإيراني، كما يحدث في اليمن، هو أن يفرض أمراً واقعاً على القوى الإقليمية والدولية، يأمل أن تقبله الأخيرة، وهي أن له نفوذاً في دول معينة، يتمثل عبر شخصيات ونخب وطوائف تشارك في السلطة، وأن على الجميع في المنطقة مراعاة مصالح إيران الإقليمية، عبر تقبل ممثليها داخل هذه الدول. لم يقصد المبعوث الدولي، وهو دبلوماسي يتمتع بخبرة طويلة، أن الأسد بشخصه، هو الجزء من الحل. فالأسد كرجل، وكنخبة محيطة به، فقدَ قدرته على اتخاذ قرار منفصل عن أصحاب الفضل والأمر عليه، في طهران. دي مستورا قصد أن يقول مواربةً، أنه ليتحقق الحل السياسي بسوريا، على الجميع أن يتقبلوا الشخص الذي يمثل مصالح إيران بسوريا، وهو بشار الأسد، في الوقت الراهن. بمعنى آخر، يدعو دي مستورا الأطراف الإقليمية والدولية، بصورة غير مباشرة، إلى الإقرار بمصالح إيران في سوريا، وبنفوذها الممثل ببشار الأسد ونخبته وجيشه وقوى أمنه، داخل سوريا. لكن مقابل الإقرار، آنف الذكر، المُغرق في الواقعية من جانب المبعوث الدولي، يبدو أن الرجل الدبلوماسي لا يتمتع بالجرأة الكافية ليقول بأن أطرافاً أخرى هي أيضاً جزء من الحل، بعضها يصعب النطق باسمه، لكنها متواجدة على التراب السوري بقوة، وتحظى بالقدرة على إجهاض أي حل سياسي وتحويله إلى أشلاء، إن لم يتم شمولها فيه. أبرز تلك القوى، فرع القاعدة في سوريا “جبهة النُصرة”، إلى جانب تنظيمات إسلامية أخرى، لا يمكن وصفها بـ “المعتدلة”، وفق الفهم الغربي، من قبيل “أحرار الشام”، و”جيش الإسلام”. ما سبق يعني أن الحل السياسي في سوريا لن ينضج، حتى لو تم الإقرار بأن الأسد، ممثلاً لإيران، جزء من الحل. ويبدو أن وصف زعيم “كردستان العراق” مسعود البرزاني للوضع بسوريا قائلاً بأن “الحل العسكري صعب للغاية، والحل السياسي أكثر صعوبة”، هو في مكانه تماماً. وهكذا، لا يبقى أمام “الممانعين” في سوريا إلا فتح جبهات جديدة وتقديمها على أنها الحاسمة، للاحتفاظ بموطئ قدمٍ لهم على التراب السوري إلى أن تنضج الظروف الموضوعية التي قد تؤهل كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية لحل سياسي فعلاً. ووفق هذا الفهم، لا تعدو معارك جنوب دمشق الدائرة الآن، كونها صفحة جديدة في كتاب “حرب الكر والفر” بين “الممانعين” ومناوئيهم على التراب السوري، حتى أجل غير مسمى. 

المدن _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى