مقالات

كلوفيس مقصود: عندما تصبح السياسة “بلا شرف”

حملة جديدة على الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تشنها أوساط في الحزب الجمهوري، تحت عنوان “أوباما لا يحب الولايات المتحدة”، بدأ بشنها عمدة نيويورك السابق، رودي جولياني، الذي قال إن “أوباما لا يظهر حباً لأميركا، وينتقدها دائماً”. وهذا اتهام لرئيس البلاد غير مسبوق في الولايات المتحدة، وغير مقبول لدى الأغلبية الساحقة من الأميركيين، فهو لا يشكك في وطنية الرئيس فحسب، بل يطعن، أيضاً، في خيار الأغلبية التي انتخبت أوباما مرتين. وأثارت تعليقات جولياني موجة من ردود الفعل الشاجبة في الإعلام الأميركي، دانت، بمجملها، موقف عمدة نيويورك السابق، وطالبته بالتراجع عن اتهاماته.

لكن، عوضاً عن الانكفاء، رفع جولياني من حدة هجومه، وقال، في مقابلة مع صحيفة “نيويورك بوست” اليمينية، إن “الرئيس معجب بالفكر الشيوعي منذ صغره”. اللافت في هذه المزاعم أنها تتخطى حدود المعارضة السياسية، وهي أقرب إلى التجريح، لا بل الإهانة المباشرة. ولا يعكس هذا الموقف وجهة نظر رجل سياسي مهمش في الحزب الجمهوري، أي جولياني، وهو ليس منعزلاً وبعيداً عن السياق العام لسياسة الجمهوريين تجاه أوباما وإدارته، بل على العكس: يأتي هذا التصريح ضمن إطار توظيف الجمهوريين فوزهم في الانتخابات التشريعية بغية تهميش الديمقراطيين، وفي مقدمتهم الرئيس، باراك أوباما. ويأتي هذا التصريح بعد أقل من شهر على دعوة زعيم الأغلبية في مجلس النواب الجمهوري، جون باينر، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للتحدث أمام الكونغرس عن “التهديد الإيراني” من دون علم أوباما. ولقد شكلت هذه الدعوة خرقاً للأعراف المتبعة، كون الرئيس الأميركي المسؤول عن توجيه الدعوات لقادة الدول الأجنبية.

وقد ساهمت موافقة نتنياهو على الحضور في دعم جهود الجمهوريين للانتقاص من مقام الرئاسة الأميركية. إذاً، هدفت تلك المحاولة إلى تحجيم دور الرئيس، والقول “إن السياسة الخارجية لا يمليها أوباما وحده، بل على الكونغرس التدخل لتصويبها حين يقتضي الأمر”، والمبرر الرئيسي لهذا التدخل سوء إدارة أوباما البلاد، وسياساته التي لا تخدم الولايات المتحدة. أما اليوم، فلقد تخطت ادعاءات الجمهوريين سياسات أوباما الداخلية والخارجية، وباتت تطول شخص الرئيس. وقد شكل تبني سياسيين جمهوريين موقف جولياني، أو بالحد الأدنى عدم إدانته، دليلاً واضحاً على تماهي الجمهوريين مع هذا الموقف. فحاكم ولاية لويزيانا، بوبي جيندال، تبنى موقف عمدة نيويورك السابق، وقال إن “جوهر ما قاله جولياني صائب”. أما حاكم ولاية ويسكنسن، سكوت والكر، فقد تجنب الإجابة على سؤال بشأن ما إذا كان يوافق جولياني الرأي، مكتفياً بالقول “لكل سياسي رأيه، ولجولياني الحق في الإدلاء بأي موقف يريد”. وكان السناتور عن ولاية كنتاكي، راند بول، الأقرب لجهة رفض موقف جولياني، لكنه لم يدنه بالكامل.

فقد قال بول، وهو مرشح محتمل لانتخابات 2016 الرئاسية، “ليس من المجدي التشكيك بنيات الساسة الآخرين، لدي علاقة عمل جيدة مع بعض الديمقراطيين، ولا أشكك فيهم. كذلك أحاول أن لا أشكك بنيات الرئيس”. ويعكس غياب إدانة موقف جولياني الواضحة سعي جمهوريين إلى نزع الشرعية عن أوباما، وليس فقط سياساته، وجنوح الحزب الجمهوري إلى اليمين، ومحاولة الوجوه البارزة استمالة المحافظين المتشددين، كأعضاء حزب الشاي. ويؤشر هذا الأمر إلى انحدار مستوى المعارضة السياسية في الولايات المتحدة إلى مستويات لم تشهد مثيلاً من قبل، ليس فقط على مستوى الخطاب السياسي، بل على المستوى الأخلاقي أيضاً. وما يزيد أزمة الجمهوريين حدة غياب وجه بارز في الحزب، يتصدى لهذا الخطاب التشكيكي بأوباما. ولقد بدأ هذا الموقف يضر بهم، وبمرشحيهم للانتخابات الرئاسية عام 2016. فالناخب الأميركي المستقل، والذي غالباً ما يميل الكفة في الانتخابات، يميل إلى رفض مثل هذا التشكيك بالكامل، إذ عوضاً عن نزع الشرعية عن أوباما، بات الجمهوريون ينزعون الشرعية عن معارضتهم وعن أخلاقيتها. ولقد أساؤوا بفعلتهم هذه إلى تاريخ المعارضة وإرثها في الولايات المتحدة.ولعل أبرز ما يظهر التراجع في مستوى خطاب الجمهوريين الفارق بين موقف ممثليهم الحالي، وموقف مرشحهم الرئاسي في انتخابات عام 2008، جون ماكين، تجاه أوباما.

آنذاك، وفي خطاب كان يلقيه على حشد من الجمهوريين، وقفت إحدى الحاضرات، واتهمت أوباما بأنه إرهابي، لكن ماكين رد عليها:” كلا سيدتي، السناتور أوباما رجل شريف، لكني اختلف معه حول القضايا الأساسية”، وأضاف “نريد معركة، وسوف أقارعه، لكني سأحترمه”. أما اليوم، فتغيب تلك الأصوات البارزة عن الحزب الجمهوري، ويغيب معها الخطاب السياسي الراقي. فإن قلة الاحترام التي يظهرها بعضهم في الحزب للرئيس أوباما بدأت تنعكس عليهم سلباً. ولعل عنوان افتتاحية صحيفة واشنطن بوست، يوم السبت 21 فبراير/شباط الجاري، أفضل وصف لما آلت إليه سياسة بعض المشككين الجمهوريين، إنها “سياسة بلا شرف”.

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى