حين تستنكر جريمة قتل، وتخرج عليك جوقة مستهجنة، تردّد السؤال: ماذا مع قتل فلان أو فلان، وماذا مع قصف الأبرياء؟ فاعلم أنه لن ينفع التذكير بمواقفك في مناهضة القصف الذي قامت به هذه الدولة المعتدية، أو تلك الديكتاتورية، فأنت لن تقنع أحداً، إذ لن يتوقف أحد لسماع إجابتك! فالسؤال سجالي نابع عن خصومة بين مَن يستنكرون قتل فرد، ولا يتوانون عن التصفيق لقتل شعب، وأقله الصمت عنه من جهة، وأصحاب عصبية (لفكرة أو لمذهب أو لجماعة أو غيرها).
لا يهمهم لو ارتكبوا أي ظلم في خدمتها، حتى لو كانوا هم أنفسهم مظلومين، فقد رفعوها فوق الأخلاق. ليس من مكان للعقل والمبادئ في فضاء هذه الثنائيات، وعليك أن تساهم في إنشاء مجال عام جديد، تحمله أجيال جديدة، مستعدة للنضال ضد الظلم، ومن أجل الكرامة والحرية، ولم تلوّثها هذه الثنائيات بعد.
راودتني هذه الفكرة لدى المتابعة القسرية للنقاش بين الحانقين على هدم تماثيل من حضارات العراق القديمة، في متحف نينوى في الموصل من جهة، وبين من يعيّروهم أنهم لم يستنكروا قصف هذه المدينة أو تلك وقتل الأبرياء، فما الأهم: الحجر أم البشر؟ وكأنه يجب أن تكون إما ضد قصف حلب، وغيرها من حواضر العرب ومدنهم، على يد همجية نظام لم يعد نظاماً، أو ضد هدم كل ما يذكّر بالعمران في حضارة هذه البلاد. عليك إما أن تقف إلى جانب استبداد يبني لنفسه أصناماً فعلاً، ويقدم على إبادة شعب من دون أن يرمش، أو تقف مع قاتل يذبح بشرا أبرياء بالسكين، ولا ندري إذا كان يرمش أم لا، فبيننا وبينه أقنعة كثيرة وسميكة.
هذا النقاش من مخازي الحرب الأهلية الدائرة بين همجيات بلادنا المختلفة التي كُشف عنها الغطاء، منذ أن انتقل بنا بعضهم من هدم أصنام الحكام بمعول الحرية والديمقراطية إلى هدم التماثيل التاريخية والعمران.
ليس الهوس بهدم التماثيل في متحف نينوى، أو غيره، مسألة دينية. فلم يعد لهذه التماثيل من معانٍ دينية، ولا أحد يقدّسها، فضلاً عن أن يعبدها. وعلى كل حال، لم يعبد أحد التماثيل في الماضي، بل كانت دائماً تجسيماً حسيّاً لما كان الناس يعبدونه في مرحلةٍ لم ينفصل فيها “الدين” عن العمل في الطبيعة ومواسمها وقواها الفاعلة، ولا عن الفن الذي يحاكيها، ولا عن الجماعة وتخيّلها، ولا عن القتال وفنون الحرب.
في تلك الحضارات الغابرة، لم يكن المقدّس منفصلاً عن السامي والجميل، ولم يتميّز “الدين” عن الفن والأدب بعد. وهذه لم تكن قائمة كأنشطة إنسانية منفصلة. (ملاحظة: ربما تفسّر متعة الهدم هذه الرغبة المُعبَّر عنها عدة مرات بالوصول إلى روما. فروما، وفلورنسا مثلاً، وحدهما يمكنهما أن تمنحا المصاب بهوس هدم التماثيل سنوات طويلة من اللذة المستمرة).
ليست هذه المجسّمات في حاضرنا سوى إرث حضاري إنساني، لا علاقة مباشرة له بالدين والقومية في الحاضر، فهو ليس ماضي حاضرنا الراهن، بل ماضي الإنسانية الغابر. ليس هذا ماضينا المباشر، وليس ثمة صراع تدور رحاه بيننا. إنها طلول حضاراتٍ عاشت على ضفاف أنهار هذه البلاد، وتركت أثرها على الإنسانية جمعاء.
وليس مَن يهدمها صاحب دين جديد، يحارب الآلهة القديمة، وما يمثّلها، كما تصوِّر ذلك قصة إبراهيم الخليل، ولا هو حامل راية مدنية جديدة، بل هو معادٍ للمدنيّة والعمران بشكل عام. وهو يخشاها، ليس لأن آلهتها تهدّده، فهذه تحوّلت إلى إرث ثقافي فني؛ بل لأنها تذكّره بأن ليس لديه ما يقدمه للحضارة الإنسانية.
فالقادر على بناء التماثيل هذه قادرٌ على بناء أشياء كثيرة غيرها. وتلك الأقوام لم تنحت تماثيل فحسب، بل عمّرت مدناً، ونقشت كتابتها في الحجر، وفلحت الأرض، وكان هذا أيضاً نوعاً من العبادة، وعاشت ممّا أنتجت. ولنتذكّر جميعاً الصلة التي تجمع الفلاح (في حيّ على الفلاح!) وفلاحة الأرض والعبادة (العمل في اللغات السامية). والذين قاموا بتحطيم التماثيل لم يحطموا أصناماً، فهذه لم تعد أصناماً، وقد مرت عليها أكثر من خلافة وسلطنة إسلامية لم تهدمها، وتعايشت معها، ومع الأقوام التي فلحت هذه الأرض، حتى اختلطت بها، ونشأت الحضارة العربية الإسلامية التي نعتز بها من هذا التفاعل.
مَن يقوم بتحطيمها في هذا العصر، يهدم، في الحقيقة، كل ما يذكّر بهزالة وجوده هو، وضعفه هو، وغربته عن هذه البلاد. إنه بلا جذور. ولذلك، يريد اقتلاع جذور البلاد نفسها، بحيث يبدو كل الناس القاطنين على ضفاف دجلة والفرات جماعات متنقلة مرتحلة مثله. من قاموا بتحطيم التماثيل، هدموا، أيضاً، مساجد، بحجة أنها تأوي قبوراً وأنصبة، وأرادوا إزالة ما يذكّر بتاريخ من كان قبلهم، وجذور غيرهم في هذه الأرض، لكي لا يبقى أحد أفضل من أحد. ولذلك أيضاً يخطفون سكانها الأصليين، ليس فقط بسبب دينهم المختلف في بعض الحالات، بل لأن هؤلاء يذكّرونهم كم هم غرباء وعابرون في هذه الديار.
العربي الجديد _ وطن اف ام