انشغلت أوساط متابعي الشأن السوري، واحتفت أوساط الحلف الإيراني، مؤخراً بزيارة أربعة نواب فرنسيين إلى سوريا ولقائهم بشار الأسد. تزامناً مع الزيارة، كانت جريدة “لوبوان” قد أجرت استفتاء على موقعها يتضمن الإجابة على عودة العلاقات الدبلوماسية الفرنسية السورية بـ”نعم” أو “لا”.
أخذ الاستفتاء حيزاً من اهتمام النشطاء السوريين قبل اكتشاف ركاكته التقنية حيث بإمكان المشارك التصويت لمرات غير محدودة من خلال الكومبيوتر نفسه. ذلك في ما عدا التصور الذي لم يكن واضحاً عن أهمية الجريدة، إذ لا تعد في مقدمة الصحف الفرنسية، وتكاد نوعية قرائها تقتصر على شريحة من اليمين المتعصب، فضلاً عن أن سجلها حافل بإثارة الكراهية ضد المسلمين حتى في ميدان الرياضة. والجريدة على أية حال لم تُخف من قبل عداءها للربيع العربي عموماً. في الرد على زيارة النواب الأربعة، اجتمع الرئيس الفرنسي السابق والحالي على وصفهم بالمهرّجين، وهو أمر لا يخلو من الدلالة لانتمائهم إلى التيارات المهيمنة في اليمين واليسار معاً، وربما شاءت المصادفة ليس إلا أن يُنشر مقال مشترك لوزيري الخارجية الفرنسي والبريطاني يجزمان فيه بعدم قبول مشاركة الأسد حتى في المرحلة الانتقالية المأمولة وفق بيان جنيف.
إلا أن المحتفين بالزيارة والمتوجسين من دلالتها لم يعيروا تصريحات ساركوزي وهولاند ومقال رولان فايبوس أهمية مماثلة لأهميتها، ظناً منهم أن تغيراً قادماً في السياسة الغربية تجاه الأسد قد بدأت طلائعه، وأن الزيارة ما كان لها أن تحدث لو لم يحظَ أولئك النواب بموافقة أو تشجيع خفي من دوائر صنع القرار. وفي أحسن الأحوال تذهب التحليلات إلى التغير في المزاج الفرنسي إثر اعتداءات شارلي إيبدو. مَن يتذكر جورج غالاوي وجهوده الحثيثة لمنع إسقاط صدام حسين؟ حينها لم يفلح غالاوي في التأثير على سياسة بلاده، على رغم وجود تيار محلي وعالمي قوي مناهض للحرب على صدام. وجه الشبه بين غالاوي والنواب الأربعة أنهم، لاعتبارات مختلفة، اجتمعوا على مشروعية لقاء مستبد فتك بشعبه وجيرانه، ينفرد غالاوي عنهم باعتناقه أيديولوجيا الممانعة، ويتميزون عنه بعنصرية لا تكترث بالإبادة ما دامت تحدث للآخرين.
وجه الشبه الآخر أن النواب الأربعة على خطى غالاوي خرقوا الحياء الخاص بالطبقة السياسية في بلدهم، واعتلوا موجة شعبوية بعيدة عن المصالح والموجبات التي تحكم القرار السياسي العام، فما فعله النواب يُترجم شكلياً تلك الموجة التي تفاضل بين الأسد وداعش لمصلحة الأول بما أن إرهابه مقتصر على السوريين وأحياناً على اللبنانيين.
لكن تجربة الحكومة الفرنسية مع نظام الأسد، يمينية كانت أو يسارية، لا تدعم فرضية تكرار الأخطاء السابقة. الاشتراكيون في الأصل لم يكونوا يوماً على علاقة جيدة بالنظام، واليمين الذي قاد العلاقة من خلال الرئيسين شيراك وساركوزي مُني بخديعة كبرى في المرتين. في العام 2005، غداة اغتيال الرئيس الحريري، وجه كاتب هذه السطور سؤالاً مباشراً لدبلوماسية فرنسية مطِّلعة عن الموقف الفرنسي المستجد حينها، وما إذا كان مرتبطاً بشخص الرئيس الحريري تحديداً؟ إجابة الدبلوماسية يختصرها قولها عن الأسد “لقد خدعنا”: لقد خدعنا عندما اتصلنا به ليساعد في إطلاق الصحافيين الفرنسيين المختَطفين في العراق، جورج مالبرونو وباتريك شيسنو، إذ رصدت مخابراتنا اتصالات من المخابرات السورية بالخاطفين تطلب منهم عدم الإفراج عنهما.
لقد خدعنا عندما تعهد بإنجاح اتفاقيتي باريس1 وباريس2، الخاصتين بالاقتصاد اللبناني، وعمل من خلال أعوانه في لبنان على إفشالهما. لقد خدعنا عندما تعهد بمنح الأفضلية لشركات النفط الفرنسية في التنقيب في سوريا، ولم يحترم حتى قواعد المنافسة فمنح حق التنقيب لشركات أمريكية. لقد خدعنا عندما ورطنا في المشاركة في برامج الإصلاح الإداري في سوريا، مستغلاً السمعة الفرنسية، ولم يلتزم بأيٍّ من مشوراتنا المتعلقة بالإصلاح… وأخيراً لقد خدعنا عندما تعهد بحماية الرئيس الحريري ثم جرّده من الحماية العادية المخصصة له.
أغلب الظن أن تلك الدبلوماسية لم تقل سوى ما هو مسموح قوله، وأن أية حكومة فرنسية تتسلم السلطة ستجد أمامها ملفات ضخمة عن أكاذيب النظام على كافة المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، وستجد أمامها عبرة ساركوزي الذي قدم نفسه كقائد “ثوري” على مستوى السياسة الفرنسية ككل، لكنه فشل تماماً في تأهيل النظام.
وضع الفرنسيين والأوربيين عموماً مختلف عن وضع الإدارة الأمريكية، فالنظام تعاطى دائماً على أن في وسعه خداع الأوربيين طالما بقي مخلصاً وشفافاً في علاقته مع الإدارات الأمريكية، ويُسجّل له كونه “من خارج الحلفاء” الأكثر تعاوناً مع المخابرات الأمريكية في حربها على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر، حتى بعد الثورة لم يُخلّ النظام بأي من التزاماته الأمريكية وعلى رأسها صفقة الكيماوي. نعم، هناك في الغرب تيار “داعشي” غير منظّم، داعشي بمعنى أنه مبني على الخوف من داعش، الخوف الذي يدفعه إلى القبول بالشيطان إذا كان مشاركاً في الحرب على داعش. هذا التيار عشوائي بقدر ما هي غريزة البحث عن الأمان عشوائية، ولا يتوقف عند المحددات الأخلاقية الإنسانية لأن أمانه الشخصي يعلو عليها.
من حسن الحظ أن النواب الأربعة لم ينسبوا لمبادرتهم أو لمضيفهم فضائل أخلاقية، بل أشار أحدهم صراحة إلى عدم نسيانه ضحايا مضيفه قائلاً إنه يعشق “النقاش مع الشيطان”، ومن المعلوم أن التعاقد المزعوم مع الشيطان هو التفسير الأسطوري لما يُعتقد أنها إنجازات عبقرية، هكذا تقول الأسطورة الفاوستية بنسخها العديدة، لكن أياً من تلك النسخ لم يتحدث عن عقد بين المهرج والشيطان.
المدن _ وطن اف ام