طيّبٌ من تلفزيون (العربي)، عرضه، في أسابيعه الأولى هذه، مسلسل التغريبة الفلسطينية، الذي شوهد في استعادات كثيرة على شاشات عديدة، منذ بثه أول مرة في رمضان 2004. وهو العمل الدرامي العربي الأنجح في تصوير مسار القضية الفلسطينية، في مستوياتها الاجتماعية والكفاحية، منذ ما قبل ثورة 1936 وصولاً إلى احتلال 1967.
كتبه وليد سيف وأخرجه حاتم علي، وكان مسلسلٌ سبقه، هو (الدرب الطويل)، إخراج صلاح أبو هنود، أُنجز عن النص نفسه، ولم يُصب نجاحاً، ثم جاء “التغريبة” ثريّاً بجمالياته، وقوياً بتعبيريته عن موضوعه، فاستحق الانتباه الجماهيري الواسع له، واحتفاء عدة فضائيات عربية به. وربما أصاب المخرج الحاذق في قوله إن العروض الكثيرة جداً لهذا المسلسل تعود إلى شعور بالخوف من نسيان الحكاية الفلسطينية، وفي إيضاحه أن أحد أهداف هذا المسلسل التلفزيوني إعادة إنعاش الذاكرة بقصص صغيرة وبسيطة، يمكن أن تشكل سفر عذاب جديد ومختلف.
أقتبس من حاتم علي، هنا، من كتابٍ بين يدي، عنوانه (الاستبداد المفرح)، صدر أخيراً (2015) عن دار كنعان في دمشق، ضمَّ حوارات معه، أجراها المخرج والكاتب، فجر يعقوب، وكتب في مقدمته الناقد، بشار إبراهيم، أن حاتم طور مسارات الدراما التلفزيونية العربية، وحققت أعماله منعطفاً في هذه الدراما. ولا أظن أن صديقي العتيد غالى في رأيه هذا، فالذي أحدثته مسلسلات المخرج المعروف، السوري الجولاني اليرموكي (نسبة إلى مخيم اليرموك) الدمشقي، في العقدين الماضيين، بيِّنٌ في التكامل الرائق بين السيناريو المتقن وتنوع التفاصيل في الصورة، فضلاً عن استثمار الفضاءات المكانية في مواقع التصوير. وربما ينطبق هذا كله أكثر على المسلسل التاريخي الذي برع فيه حاتم علي، وكذا المسلسل البدوي الذي غامر في الذهاب إليه، وشاهدنا البدو فيه، لأول مرة في الدراما عنهم، يطبخون ويأكلون، ويبيعون ويشترون.
تتنوّع تجربة مخرجنا، فبالإضافة إلى تمثيله في مسرحيات ومسلسلات، أنجز عشرين مسلسلاً، تاريخياً واجتماعياً وبدوياً، وتسعة أفلام تلفزيونية، وثلاثة أفلام سينمائية، وهو من مواليد 1962، غير أن محاورات فجر يعقوب معه تختص، غالباً، بالأعمال التاريخية التي يوضح حاتم علي أن خطورتها في أن المشاهد يستقبلها باعتبارها الحقيقة المطلقة، فيما المسلسل التاريخي مجرد اقتراحٍ قابل للنقاش، و”للأسف، لا يدرك المشاهد أن التاريخ نفسه قد يكون، أحياناً، وجهة نظر”. وأحسب أن هذا رأي جدير بانتباه خاص، من فنانٍ أظن أن ثلاثيته الأندلسية، في التلفزيون، دفعت كثيرين من مشاهديها إلى القراءة عن زمن المسلمين في الأندلس. ولو لم تتوفر المسلسلات الثلاثة التي أبدعها حاتم علي، مع ممثلين قديرين، وفنيي إضاءة وتصوير موهوبين، نصوص كاتبٍ محترف في نبش التاريخ وبطونه، هو اللغوي وليد سيف، لما أَمكن لهذه الأعمال أن تتوفر على البهجة والمتعة اللتيْن تضافرتا مع تخييلٍ شاسع، لم يفارق الحقائق المعلومة، عندما صنع لنفسه مساحتَه في بناء الحكاية التاريخية، وفي تصويرها، وفي (إيهام؟) المشاهد بحقيقتها.
يتحدّث حاتم علي لصديقنا فجر يعقوب عن خجلٍ، كان فيه إبّان صباه ويفاعته، وعن شراء أسرته جهاز تلفزيون بعد بيعهم نصف بيتهم، وعن مشاركته ممثلاً في دور صغير في مسلسل هيثم حقي “دائرة النار”. ويتحدث عن أمور أخرى شائقة، وأضاء، في الأثناء، على خياراته الفنية والجمالية. ويدل تحليله “التغريبة الفلسطينية” على ثقافة أدبية ونقدية متقدمة لديه، وهو صاحب مجموعتين قصصيتين وثلاث مسرحيات. ولا مجازفة في الزعم، هنا، أن تجربة لامعةً في الدراما العربية، بوزن منجز حاتم علي، كما تجارب أخرى بخيارات مختلفة، تفضح الكسل النقدي العربي لمنتجٍ فنيٍّ مؤثر ونافذ وحيوي، هو الدراما التلفزيونية. شاهدوا “التغريبة الفلسطينية” مجدداً، و”عمر”، و”على طول الأيام” و”ملوك الطوائف” و”الزير سالم”، أمثلةً، واقرأوا “الاستبداد المفرح”.
العربي الجديد _ وطن اف ام
