الفارق بين تحطيم تمثال دكتاتور مستبدّ لا وطني، مثل حافظ الأسد؛ وتمثال زعيم وطني ورمز لكفاح سوريا من أجل الاستقلال والديمقراطية، مثل إبراهيم هنانو (حتى من باب خطأ، إذا صحّ، ليس أقلّ قبحاً من الذنب العمد)؛ إنما يحيل إلى الفارق، الجوهري العميق ـ الذي لا يقتصر على التمييز الدلالي الصرف ـ بين الحديث عن «تحرير» مدينة إدلب، أو سقوطها في يد «جبهة النصرة». والإحالة، هنا، تخدم في إدارة السجال حول سلسلة من المسائل التي تخصّ المآلات الراهنة للانتفاضة الشعبية السورية ضدّ نظام آل الأسد، بصفة عامة؛ وحال الفصائل الإسلامية المسلحة وأدوارها في أنماط الصراعات الجارية، العسكرية والسياسية والاجتماعية ـ الثقافية؛ ومصائر ما تبقى من خرافة «المعارضة المعتدلة»، في حلب وشمالها، وفي إدلب وجوارها؛ وأخيراً، الموقع المزري الذي انحطت إليه مؤسسات «المعارضة الرسمية»، الإسطنبولية تحديداً وحصرياً كما يجوز القول.
ففي المسألة الأولى، لعلّ التذكير بالبديهي، حتى إذا كان محلّ خلاف، هو الاعتبار الأبرز الذي يسوّغ محاولة الإجابة عن السؤال الشائك، والمشروع تماماً: ما الذي تبقى أمام هذه الانتفاضة؟ البديهي يقول التالي، بمعزل عن التعقيدات والإشكاليات كافة: بقي أمامها مآل واحد من اثنين، لا ثالث لهما: إمّا أن تنتصر، وإمّا أن تنكسر. وما دام النظام لم ينتصر، فإنّ الانتفاضة لم تنكسر، وفي المساحة المركبة بين طرفَيْ هذه المعادلة، ثمة الكثير من المهام التي يفرضها إيمان الغالبية الساحقة من السوريين بأنّ إعادة التاريخ إلى ما قبل آذار (مارس) 2011 باتت منتفاة تماماً، مثلما باتت مستحيلة محاولات إعادة إنتاج النظام أو إعادة تجميله وتسويقه لدى السوريين.
هنالك، مثلاً، مهمة يومية كبرى، وأولى، هي بقاء السوري على قيد الحياة، تحت وابل القذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية؛ ثمّ تدبّر حليب الرضيع، ولقمة الخبز كفاف اليوم، وقطرة الماء، وأبسط الدواء، ودفتر الطفل وقلمه وكتابه، وسقف الخيمة أو ستر العراء. وهنالك، في غمرة هذا كله، تنمية حسّ المقاومة، وبناء المهدّم ساعة بساعة، وجَسْر الهوة بين السوريين أبناء وطن واحد تشرذم وتجزّأ وتقطعت أوصاله. وما دام الغزاة الأجانب يتدفقون إلى سوريا، سواء أكانوا من ميليشيات «حزب الله» و»الحرس الثوري» الإيراني والعصائب المذهبية الأخرى، أو كانوا من الداعشيين وغلاة الجهاديين المهووسين، فإنّ المهامّ االعسكرية تبسط ظلالها الدامية على المشهد، أياً كان اتفاق المرء أو اختلافه مع خيار السلاح.
من جانب آخر، أمر طبيعي أن التعددية الواسعة، التي ميّزت الحراك الشعبي منذ البدء، أنتجت تعددية واسعة في الأهداف والرؤى والأساليب، فتقاطعت المصالح، وتنازعت العقائد. هذه سنّة الحياة، وليس أهل الانتفاضة أقلّ ذكاء من أهل النظام في استيعاب طبائع الاتفاق والاختلاف، وحسن استغلالها، واستثمارها؛ وكذلك، وهو الأهمّ ربما، اختبارها على الأرض فعلياً، في غمرة التضحيات الجسام والشهداء الذين يتقاطرون بالعشرات، كلّ يوم. السلاح، بوصفه عقيدة وعبادة، معضلة أولى؛ والتجييش الطائفي، والتخويف من الحرب الأهلية، معضلة ثانية؛ وهزال هيئات المعارضة، الخارجية «الرسمية»، التابعة والمرتبطة بأنظمة وأجهزة ومصادر تمويل، معضلة ثالثة؛ وتعليق الآمال على أعداء النظام اليوم/ أصدقائه حتى الأمس القريب، معضلة رابعة؛ وموقع سوريا الجيو ـ سياسي، الخاصّ والحساس، معضلة خامسة؛ وانقلاب البلد إلى ساحة لتصارع الأجندات، الإقليمية والدولية، الجيو ـ سياسية والمذهبية، معضلة سادسة؛ والقوى العسكرية والميليشيات الغازية للبلد، المقاتلة إلى جانب النظام أو ضده أو فيما بينها، وضدّ الشعب السوري دائماً، معضلة سابعة؛ والموقف الإسرائيلي، غير الراغب في سقوط النظام، معضلة ثامنة…
على هذه الخلفية، من المضحك أن يتحدث البعض عن «تحرير» إدلب، بدل الإقرار بأنها لم تسقط في قبضة «جبهة النصرة»، فحسب؛ بل أسقط سقوطها الكثير من المعادلات، المحلية والإقليمية والدولية، لصالح «النصرة»؛ حتى إشعار آخر طويل، كما يلوح. ومنذ كانون الأول (ديسمبر) 2012، حين لجأت واشنطن إلى الإجراء الكلاسيكي، والكاريكاتوري، المتمثل في وضع «النصرة» على اللائحة الأمريكية للإرهاب؛ ارتفعت شعبية الجبهة، بل استشرست أكثر، وتكشف المزيد من المكوّنات الظلامية في خطابها وسلوكها، واستقوت على سواها. وكانت التلميحات إلى أنّ واشنطن تتردد في ترخيص إيصال الأسلحة النوعية لأنها تخشى وقوعها في أيدي «المتشددين»، سرعان ما تُفتضح مضامينها الخافية، الفعلية والحقيقية، التي تتلخص في خشية أمريكا من إلحاق الأذى بأمن إسرائيل. وظلّ هذا، وحده وفي ذاته، سبباً جيداً لكي تتعاطف الجماهير مع «المتشددين»، الأمر الذي ينتهي إلى تهميش «المعتدلين»، غنيّ عن القول!
وهكذا فإنّ تخبّط واشنطن ـ أسوة بحلفائها، كلٌّ حسب الملعب الذي اختاره للعب بالفصائل الجهادية ـ كان بمثابة عامل تقوية للجبهة، فلم يكن لديها ما تخسره جرّاء حجب الأسلحة، ويتوفر لها الكثير الذي تربحه في حال تدفقها. المفارقة أنّ الوضع القتالي على الأرض لم يختلف كثيراً من حيث تبديل معادلات التوازن بين «المعتدلين» و»المتشددين»، والأسلحة التي كانت مختلف الكتائب المقاتلة تغنمها من جيش النظام تكفّلت بترسيخ تعايش لوجستي بين الفئتين، ارتقى في الآن ذاته إلى مستوى التقاسم الوظيفي الحساس. وحين اختلّ الميزان، فإنّ الكفة رجحت لصالح «النصرة»، كما في حربها ضد «حزم» و»الحبهة الثورية السورية»، وحتى «داعش» ذاتها، في جبل الزاوية ومحيط إدلب وشمال حلب، ثمّ في المعركة الفاصلة للسيطرة على معسكرَي وادي الضيف والحامدية تحديداً.
«التحرير» خرافة، إذاً، وتهليل تلقائي أشبه بعزاء الذات للذات، مع الاحترام لمشاعر البشر الغريزية؛ لأنّ السوريين خبروا الكثير من «أخلاقيات» هذا الفصيل الجهادي، إذْ كلما جرى التهليل لـ»تحرير» هذه البقعة من أرض الوطن أو تلك، بسلاح «النصرة»، اتضح سريعاً أنّ أعراف «الإمارة» الإسلامية هي التي سوف تتحلّ محلّ قوانين «المزرعة» التي كان نظام آل الأسد يطبقها في كلّ شبر من أرض سوريا. ومن العار ـ لأنه لم يعد مضحكاً، ولا سخيفاً فقط ـ أن يرحّب «علماني» مثل برهان غليون ـ بصفته رئيس أوّل «مجلس وطني» للمعارضة، على الأقلّ! ـ ببيان أبو محمد الجولاني، أمير الجبهة، حول إدارة مدينة إدلب؛ معتبراً أنها تقضي على «الشكوك التي يثيرها الكثيرون في الداخل والخارج حول العلاقة بين القوى الجهادية والقوى الوطنية، والتي تجعل المستقبل يبدو غامضاً بالنسبة للسوريين إزاء أي تقدم على الارض وفي مجال التحرير». ليس أقلّ خزياً اكتشاف «العلماني» الآخر، ميشيل كيلو ـ بصفته شيخ المنابر «الديمقراطية»، وأمير التقلّب في مداهنة الجهاديين ـ أنّ السياسة الامريكية تعتمد مبدأ «الخيار والفقوس»، في التمييز بين قوّات البيشمركة الكردية، وفصائل الجيش السوري الحرّ؛ وكأنّ السياسة الأمريكية لم تكن تسير إلا على سراط مستقيم، ولم تتعامل مع قضايا الشعوب إلا بالعدل والقسطاط!
وليست مصادفة، حتى إذا لم يكن الاتفاق عمادها، أنّ «داعش» ارتكبت مجزرة وحشية في المبعوجة، رغم تخرّصات النظام وميليشياته حول تحصين القرية، وبلدة السلمية وتخومها كاملة؛ وأنّ قطعان البغدادي اقتحمت بعض أحياء مخيم اليرموك، وسط ابتهاج النظام، وهزال ردّ الهمام زهران علوش قائد «جيش الإسلام». والفارق، هنا أيضاً، ليس دلالياً صرفاً بين «التحرير» والمجزرة؛ إذا كانت القاعدة الجهادية هي الأداة، واستبدال المزرعة بالإمارة هو المآل؛ ثمة تاريخ آخر جدلي طيّ سطح الوقائع، وإغفاله إنما يضيف الإهانة إلى جراح السوريين.
صبحي حديدي – القدس العربي