شير السجال الدائر اليوم بين السوريين، حول دخول قوات المعارضة السورية مدينة إدلب شمال سوريا، وإحكام سيطرتها عليها بعد سنوات من حصارها ومحاولة دخولها، إلى أن المزاج العام لدى السوريين طرأ عليه الكثير من التعديلات، وقد يكون من أهم هذه التعديلات غياب الإجماع وغياب اليقين المرافق له، وهو ربما يكون ثمرة من ثمرات الحراك الثوري الذي أنهى سلطة الوصي التاريخي على المجتمع السوري.
يدور سجال واسع اليوم حول مستقبل مدينة إدلب، بعد أن باتت تحت سيطرة قوى عسكرية ذات طابع جهادي، كجبهة النصرة وأحرار الشام على سبيل المثال، وحيث أن الفروقات بين التيارات الجهادية السورية المتمثلة في تنظيم الدولة الاسلامية، أو جبهة النصرة، أو حتى حركة أحرار الشام، باتت طفيفة للغاية، فمن حق السوريين، والأمر كذلك، أن يتساءلوا حول مستقبل المدن التي تسيطر عليها هذه التنظيمات، والشكل السياسي الذي ستدار به هذه المدن السورية بطبيعة الحال.
قدمت محافظة الرقة سابقا نموذجا بائسا في “التحرير”، حيث تحولت على يد تنظيم الدولة الإسلامية إلى “نواة” دولة الخلافة التي ينادي بها التنظيم، “وبجهود” القوى الظلامية، باتت الرقة أشبه ما تكون بمدينة في أفغانستان منها إلى مدينة سورية تنتمي إلى تاريخ هذه المنطقة، وهو شيء كان صادما لجميع القوى السورية العسكرية منها والمدنية.
على نفس الطريق ولكن بصيغة أكثر براغماتية، تحولت جبهة النصرة، من فصيل يزعم أنه قدم إلى سوريا “لنصرة أهل الشام”، إلى فصيل يدعو إلى إقامة دولة إسلامية أو إمارة أو غير ذلك، حيث أن جبهة النصرة ومع اشتداد قوتها على الأراضي السورية، وتحولها إلى لاعب مهم على صعيد الصراع الدائر، قامت بالإعلان في شهر يوليو من العام الماضي 2014 عن تأسيس إمارة الشام الإسلامية، وهو تطور ملفت لم توله وسائل الاعلام المهتمة بالشأن السوري الأهمية الكافية في التحليل، بالرغم من أنه يمثل تطورا مهما وخطيرا على صعيد تنظيم جبهة النصرة، التي باتت لاعبا مقررا على صعيد مستقبل البلاد.
على صعيد الممارسة السياسية، انتهجت النصرة نهجا سياسيا في إدارة المناطق التي تسيطر عليها، يشبه، حد التطابق، النهج الذي اعتمده تنظيم الدولة الاسلامية، بنت النصرة هيئات شرعية، وأقامت الحدود، ونفت جميع معارضيها، ووصلت إلى حدود شن معارك ضارية ضد تشكيلات محسوبة على ما بات يعرف بالمعارضة المعتدلة. بالملموس، كانت النصرة توأم تنظيم الدولة الإسلامية ولكن بأكثر تهذيب وبراغماتية ربما.
هل تختلف التيارات الجهادية المتشددة عن تلك الأقل تشددا في شكل إدارة المناطق السورية “المحررة”؟ في الحقيقة وعلى صعيد الممارسة، من الصعب أن نعثر على فروقات جوهرية بين مجموعة هذه التشكيلات.
في الغوطة الشرقية على سبيل المثال، حيث يُحكم “الشيخ” زهران علوش قائد جيش الإسلام سيطرته على المنطقة، سنجد شيئا مشابها لما قدمته التيارات الجهادية شديدة التطرف، هنا سنجد هيئات شرعية عوضا عن الهيئات القضائية، وهنا سنجد سجونا “للتوبة” غالبا ما يزج بها المعارضون، وهنا ألقى علوش “خطابه التاريخي” قبل بضعة أسابيع والذي قال فيه بالحرف الواحد “إن الديمقراطية تحت حذائه”. وأشار، في مناسبات مختلفة، إلى طبيعة الدولة التي يسعى إلى إقامتها بعد سقوط نظام بشار الأسد، وهي دولة إسلامية بطبيعة الحال. وهنا اختفت الناشطة الحقوقية رزان زيتونة وزملاؤها.
تشير القراءة النقدية إلى أن قوى المعارضة، والعسكرية منها على وجه التحديد، لم تقدم تجربة يعتد بها على صعيد إدارة المناطق التي تمكنت من السيطرة عليها، فلن نعثر بطول البلاد وعرضها على تجربة تشير إلى حسن الإدارة حتى في حدها الأدنى، لن نعثر سوى على غياب للعدل وحضور قوي للفوضى وما تحمله معها من هدر للحقوق.
تتقدم اليوم جبهة النصرة القوى “الفاتحة” لمدينة إدلب، ويتساءل السوريون هل ستكون إدلب نموذجا مشابها لمدينة الرقة شرق البلاد؟ هل ثمة معجزة قد تحل على مدينة إدلب وتجعل منها تجربة مختلفة عن سواها، حيث قد نشهد هيئات قضائية مختصة يديرها أكاديميون واختصاصيون؟ وهل سنرى مدرسين مختصين يعلمون أطفالنا عوضا عن مشايخ يعلمون شيئا أشبه “بالكتاتيب” منه إلى أي شيء آخر؟
لإدلب خصوصية لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار، حيث أنها مدينة حدودية، فمن الصعب على قوات الأسد حصارها، بالإضافة إلى أنها مفتوحة على العالم الخارجي، وهو ما يسمح بدخول الكوادر المتخصصة التي تفتقد لها المناطق “المحررة” من أطباء ومحامين ومدرسين وغيرهم.
هل ستسمح النصرة بعودة هؤلاء الشبان ليباشروا بناء تجربة تشكل في صيرورتها ردا على العالم الذي يشكك بقدرة السوريين على إدارة مصائرهم وتشكل جوابا على تساؤلات العديد من السوريين حول جدوى تحرير المدن؟ ربما لا يحتاج الأمر سوى إلى بضعة أسابيع حتى نتمكن من الوقوع على إجابات أولية حول أسئلة مشروعة يطرحها العديد من السوريين المنكوبين.
العرب اللندنية _ وطن اف ام