مقالات

ميشيل كيلو : لا عذر بعد اليوم لعربي

بصراحة، كنا نعتقد، نحن السوريين، أن نفس الخليج قد انقطع، وأن حكامه ما عادوا قادرين حتى على هش الذباب عن وجوههم. وكنا نؤمن بوجود خطوط حمراء أميركية، تلزمهم بالمشاركة في إدارة أزمتهم عبر إدارة الأزمة السورية. وكنا نرى وقائع تؤكد صحة ظنوننا.

وفي حين كنا نعتقد أنه ليس في مصلحتنا إغضابهم، لمجرد أنهم عاجزون عن إسقاط بشار الأسد بالسرعة التي نريدها، فإننا كنا نكرر، في مجالسنا، أنهم ليسوا شركاء جديين للشعب السوري، لأنهم لا يعون ما يحيق بهم من أخطار إيرانية، ولو كانوا يعونها لما كنا بحاجة إلى أن نشرح لهم، كل مرة، نلتقيهم فيها تفاصيل ما يجري، من دون أن يحركوا ساكناً، أو يخرجوا على الخط الأميركي الذي صفى حساباته الإقليمية بدماء شعبنا المظلوم، الذي لا يستطيع الخروج من معركة ليست معركته، مع أن تكلفتها باهظة إلى درجة لا يكاد يحتملها، ولا يريد، في الوقت نفسه، الاستمرار في خوضها، لكونها تعرضه لشتى أنواع التلاعب والأخطار، وتهدد وجوده إلى زمنٍ لا يعرف أحد نهايته، وإن كنا نعرف جميعا أنه سيمتد ويطول.
كان إخوتنا الخليجيون يؤكدون حبهم لشعبنا وحرصهم عليه، وكنا نقول، في سرنا ونحن نستمع إليهم، ما سبق أن قاله محمود درويش لمن تلاعبوا بقضية فلسطين وشعبها “ارحمونا من هذا الحب القاسي”، الذي لم يحمنا من الموت والخراب والتشرد والقتل.
في الأيام القليلة الماضية التي أعقبت بدء “عاصفة الحزم”، بدأنا نشعر باحتمال نشوء وضع نضطر معه إلى مراجعة مواقفنا غير المعلنة، وأحسسنا بالأمل في أن يكون إخوتنا في الخليج قد تحركوا لأسبابٍ، بينها وعيهم العلاقة بين استيلاء الحوثيين على السلطة في صنعاء وجسامة الاختراق الإيراني للمشرق، ورغبتهم في الحد من تأثير سياسات أميركا عليهم، وخصوصاً منها تلك القائمة على إدارة الأزمة السورية بطرق تلحق بهم أفدح الضرر، على الرغم من أنهم شركاء فيها، بينما تسمح بفتح صفحة جديدة مع طهران، خصمها وخصمهم المفترض، تجعلها هي، لا المملكة العربية السعودية، شريك واشنطن الاستراتيجي، بكل ما قد يرتبه ذلك من مخاطر على الدولة السعودية التي قد تكون مستهدفة، كآخر كيان عربي قوي، ويمتلك القدرة على المبادرة، ومن تحد لوجود بقية دول الخليج التي لا يستبعد انهيارها، لا سمح الله، في حال نجحت طهران في اختراق المملكة التي لم تشتهر إطلاقا بسياساتها الانفعالية، لكن شعورها بالخطر أقنعها بضرورة التصدي للحوثيين في اليمن، ولإيران التي هللت لهم، وأعلنت عزمها على إيصال من يماثلهم إلى السلطة في الرياض والكويت: منطقة النفوذ الفارسي التاريخي، على حد قول مسؤول فارسي كبير، بينما أعيدت البحرين إلى موقعها على الخرائط الإيرانية محافظة فارسية، وأعلن عسكر الحرس الثوري أن كماشته الاستراتيجية تطبق الآن على الأرض العربية، مثلما تطبق كماشته البحرية على مضيقي هرمز وباب المندب، مغلقة الأول أمام تصدير جزء كبير من النفط العربي، والثاني في وجه قناة السويس المصرية.
جاء الرد السعودي في مستوى الهجوم الإيراني مدروساً، وجيد التخطيط والتنفيذ، وأشرك العرب في عاصفته، وأظهر حجم القدرات الهائلة التي يمتلكها من يريدون حماية أوطانهم، وكم هي قصيرة يد إيران “الطويلة”، ومحكومة بعجزها عن الدخول في مواجهة مع عالم عربي، شمر عن ساعديه دفاعاً عن سلامه واستقلاله، وقرر الضغط على أتباعها في المناطق التي غزوها لإخراجهم منها، لقناعته، ربما، بأن سكوته عن سياسات طهران شجعها على التمادي في الاعتداء عليه، وتهديد دوله ومجتمعاته.
أمام المفاجأة المزدوجة، المتمثلة في الرد العسكري، وفي المشاركة الخليجية الشاملة والعربية الواسعة في “عاصفة الحزم”، عم الاضطراب مواقف طهران التي وجدت أنها لا تستطيع تحريك أي شيء غير ألسنة قادتها الذين بان عجزهم عن نجدة عملائهم، فنابت تصريحاتهم القوية عن محدودية خياراتهم وضعف قدرتهم على الرد العسكري المباشر.
لا عذر لعربي، إن هو ساير بعد اليوم إيران أو تعايش مع اختراقاتها في أوطاننا، أو أحجم عن مواجهتها، خوفا من بهورات جنرالاتها، بعد أن بينت “عاصفة الحزم” أن لدى العرب الأهلية لبلورة ردود ناجعة على تغلغلها في بلدانهم، وأن عجزها الفاضح في اليمن سيكون أشد في سورية، حيث تقاتلها قطاعات شعبية واسعة، وتنزل هزائم متلاحقة بمرتزقتها، ولن تكون بحاجة إلى أي شيء غير دعمها بالسلاح، لمساندتها في معركة عربية بامتياز، لا تدافع فيها عن ذاتها وحسب، وإنما تحمي الجسد العربي بأكمله أيضا، بوسعها تصعيد قتالها لاحتواء أية ضغوط إيرانية على الخليج، وطرد الاحتلال الإيراني من وطنها الذي استخدمه الفرس، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، قاعدة متقدمة ضد السوريين والعرب، أسهم نظامها الأسدي في نقل إرهاب فارس إلى بلدانهم التي كان آخرها اليمن. فتحت “عاصفة الحزم” معركة الوجود الإيراني في أوطاننا التي يرى السوريون فيها معركة استقلالهم الثاني التي لا بد أن تفضي إلى طرد الفرس ومرتزقتهم من وطنهم.
وعلى الرغم مما يراودنا من آمال، لا بد من الإقرار بأن “عاصفة الحزم” ستضع العرب أمام خطر وجودي، في حال تهاونوا فيها، أو توقفوا في منتصف طريقهم إلى الحسم، أو أعجزهم تقاعس ما عن إخراج الفرس من بلدانهم. هذه معركة سيكون لها أعظم النتائج سلباً وإيجاباً، ستأخذنا إما إلى حرية العرب واستقلالهم، أو إلى رضوخهم لعبودية استشهادهم في الحرب، دفاعا عن كرامتهم وهويتهم أفضل لهم منها بكثير.

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى