مع خروج مدينة جسر الشغور عن سيطرة النظام سرعان ما ارتفعت أصوات تحذّر من الاقتراب من “المناطق العلوية”، وتجزم بارتكاب التشكيلات الإسلامية المهاجمة مذابح طائفية، أو تشير على الأقل إلى جدية هذه المخاوف سواء أكانت حقيقية أو وهمية! قد يسهل الرد على تلك الأصوات بأنها لم ترتفع، أو بالأحرى صمتت، عندما ارتكب الشبيحة مجازر طائفية في الحولة وغيرها، وصمتت أيضاً عندما ارتكبت قوات النظام والشبيحة مجازر طائفية في بانياس والبيضا بمؤازرة معلنة من ميليشيا الطائفي التركي معراج أورال. غير أن رداً من قبيل تقاذف الاتهامات، أو رداً يضمر الشماتة، سيعزز من المنطق الطائفي لهؤلاء، ولن يساهم بإحراجهم بخطاب وطني أو أخلاقي جاد.
سيكون ضرورياً التذكير بأن جبهة النصرة وأمثالها، وصولاً إلى زهران علوش وأمثاله، لم تكن يوماً الخيار المفضّل لعموم السوريين، ولم تكن الخيار المفضّل للسنّة على وجه خاص، بل كان السنة أكثر من تضرر من سيطرتهم إذا جارينا أصحاب تلك التقسيمات بمنطقهم. علامات الفرح التي يبديها الكثيرون عندما تخرج منطقة عن سيطرة النظام بيد التشكيلات الإسلامية لا تعني قطعاً الموافقة على نهجها السياسي، هي تعبير عن الرغبة بالخلاص من المجرم الأكبر بأي ثمن، وإذا حمل بعضها شماتة بالنظام وعصاباته ومواليه فهي شماتة المستضعف لا شماتة القادر.
باختصار، ليست النصرة وأمثالها ما تريده غالبية السوريين لمستقبلها ومستقبل أبنائها، إنما قبل ذلك وبوضوح أكبر؛ لا تتخيل نسبة كبيرة من السوريين أن يشاركها النظام مستقبلها وتحت أي ثمن. وإذا جارينا أصحاب المنطق الطائفي سنكون أمام استعصاء أهلي حقيقي، فهناك نسبة من السوريين ترى عدوّها الأول في التطرف الإسلامي السني، الميليشيات الشيعية الحليفة لا تُرى هكذا! وهناك نسبة أكبر من السوريين ترى في النظام الإرهابي الأول. وفق منطق المخاوف، هناك نسبة من السوريين لديها مخاوف “حقيقية أو وهمية” من البديل، وهناك نسبة أكبر لديها مخاوف مُختبَرة من بقاء النظام الذي قتل منها ما يقارب المائتي ألف وتسبب بقتل عشرات الآلاف من الطرف المقابل الذي زجّه في الحرب.
مرة أخرى، تبادل الحجج أو الذرائع لا يبني خطاباً أخلاقياً أو وطنياً، وفي العديد من الأحيان يغلب عليه طابع التنصل من المسؤولية الأخلاقية والوطنية، وقد لا يخلو من الاصطفاف غير المعلن مع النظام. مع التطورات الميدانية الأخيرة نحن أمام احتمالين، فإما أن تكون قد اقتربت نهاية النظام، أو أن تكون هناك نية دولية وإقليمية لإجباره أخيراً على القبول بتسوية سياسية. حتى الآن الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى الواقعية من جهة القوى الدولية، وما أعاقه سابقاً وقد يعيقه الآن تشبث النظام بالبقاء واستمراره بالحرب على السوريين، أي رفض فكرة التنحي المطروحة على رأس النظام والمسؤولين الكبار عن الحل الوحشي المتبع منذ أربع سنوات.
ثمة فرصة ضئيلة في أن يقبل النظام تسوية يفرضها الواقع الميداني، وسنكون حينها إزاء تقاسم للسلطة يفوز به أمراء الحرب، ويكتسب من خلاله الإرهابي الأول مشروعية البقاء على أساس طائفي، مثلما ستمتلك سلطات الأمر الواقع الأخرى مشروعية التمثيل الطائفي. مشكلة المحاصصة، في ما عدا فرضها التمثيل الطائفي بموجب القوة العسكرية ومن ثم إعادة تكريس هذا المنطق في الحياة السياسية، هو في كونها ستنتج دورات متجددة من العنف، الأمر الذي اختُبر في لبنان وبعده العراق، وبالتأكيد يتوارى الاعتبار الأخلاقي تماماً عندما يُطوّب المجرم زعيماً.
إذا افترضنا أننا اليوم أمام استحقاق التغيير، أو البدء به، فصياغة خطاب يلائم هذا الاستحقاق قد تكون في طليعة واجبات المعارضة على اختلاف مواقعها وتوجهاتها. وإذا كانت المعارضة بشقها السياسي لا تملك ثقلاً ميدانياً يؤهلها لفرض رؤيتها إلا أنها يمكن ويجب أن تشكل ضغطاً معنوياً. المطلوب بإلحاح، من أجل مستقبل حقيقي وواقعي، لا يتلخص بكلمات عمومية عن التحول الديمقراطي ولا بكلمات معسولة عن الوئام الوطني المأمول، ولا حتى بطمأنة لم تكن يوماً ممكنة لمخاوف كانت وهمية وصارت حقيقية. بخلاف ذلك المنطق، المطلوب اليوم هو طمأنة السوريين بلا تمييز، ومثلما ينبغي طمأنة قسم منهم من حدوث أعمال انتقام ينبغي طمأنة القسم الآخر إلى أن حداً “مقبولاً” من العدالة سيأخذ مجراه.
العدالة القصوى مطلب غير واقعي، لأن القصاص من كافة المجرمين الصغار قد يتسبب بالضرر لمجموعة ضخمة من الأهالي. هنا تحضر القاعدة التي تنص على أن الرحمة أعلى من العدل، وهي كما نعلم مشروطة أولاً بتجريم المرتكبين، وهذا ما سارت عليه أفضل تجارب العدالة الانتقالية، وكي لا يُفهم هذا في اتجاه واحد؛ هناك جرائم بحق المدنيين ارتكبها أمراء حرب من خارج النظام لن يسكت عنها المتضررون منها.
تبقى إشارة أخيرة لمروّجي مقولة “المخاوف الطائفية”، إذ نفترض أخلاقياً ألا تجرّد المخاوف أية مجموعة “بصرف النظر عن معتقداتها” من الإحساس بالظلم والتوق إلى العدالة، وتجريدها من ذلك هو ضرب من العنصرية. يبقى إذاً، بدل العزف على وتر المخاوف، امتلاكُ شجاعة إدانة المجرمين وتسميتهم صراحةً وبلا أي انحياز طائفي. أغلب الظن أن الفرصة الضئيلة المتبقية لنا كسوريين تبدأ من هنا.
المدن_ وطن اف ام