مقالات

باسل العودات : لا تبيعوا الوهم للسوريين من جديد

بعد تحقيق المعارضة السورية المسلحة لانتصارات عسكرية جديرة بالاهتمام، بعضها استراتيجي، عاد الحديث من جديد عن إمكانية تحقيق المعارضة السورية المسلحة لنصر على النظام، وراحت هذه المعارضة تبث التفاؤل إلى أبعد من الحد المتوقع، وتؤكد على أن النظام بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، وأعتقد أن حماسها هذا ينبغي أن يُلجم حتى لا تبيع الثوار الوهم مرة ثانية وتُضيّع انتصاراتهم الهامة.

في درعا وريفها، وإدلب وحلب وريفهما، وفي مناطق أخرى من سوريا، حققت المعارضة المسلحة انتصارات على جيش النظام وميليشياته، السورية منها والمتعددة الجنسيات، وتراجعت قوات النظام عن مواقع كثيرة كانت تسيطر عليها وتكبّدت خسائر، وامتلأت وسائل الإعلام المناوئة للنظام من خلال ما صرح به مسؤولو المعارضة السورية وكشفته توقعاتهم عن قرب سقوط النظام وانهياره، وعن انقلابات داخلية وانقسامات تنهش جسم النظام، وتسريبات عن تراجع طائفة النظام عن دعمه، وتحليلات عن قرب معركة الحسم في دمشق.

كل ذلك الصخب الإعلامي قد يكون صحيحا في ظروف أيّ ثورة تحاول تغيير قيادة سياسية تحكم البلد، لكنه ليس صحيحا في ظروف الأزمة السورية، فهي أزمة أكثر تعقيدا مما يمكن توقعه، يتداخل فيها السياسي بالطائفي، والمحلي بالإقليمي والدولي، وتحكمها ثلاث عُقد عمل النظام السوري على تشبيكها منذ عقود.

العقدة الأولى تتعلق بالنظام نفسه، فهو قد سخّر موارد وإمكانيات الدولة بكاملها لخدمة بقائه، واستخدم الجيش والأجهزة الأمنية والوزارات والمؤسسات والمدارس والمشافي والمطارات، ووضع يده على مليارات خزينة الدولة وعلى كل الطاقات الاقتصادية لسوريا في خدمة بقائه، وهو لهذا مازال يمتلك موارد لا يستهان بها، وعليه يمكن أن يستمر بالقتال حتى لو جاع كل السوريين وعاشوا بؤسا وظلما لا ينتهي.

العقدة الثانية طائفية بمعناها المصلحي، فالنظام استخدم الجيش والأمن اللذين يُقدّر عددهما قبل الأزمة بنحو 700 ألف، عمل جاهدا خلال عقود لتكون الغالبية الساحقة من قادتهما من طائفته، ومهما انشق منهم أو قُتل فالبقية كُثر، وهو لم يكتف بهؤلاء، بل جيّش جزءا كبيرا من الأقليات الدينية والطائفية لخدمة كرسيه بالإيحاء لهم أن مصيرهم مرتبط بمصيره، وفتح الباب ليتطوع عشرات الألوف من الميليشيات والشبيحة وسلحهم للدفاع عن النظام، كذلك ربط مصير جيش من الفاسدين بمصيره، فاسدون من كل الطوائف استفادوا منه طوال عقود وباتوا جزءا من تركيبته، وليس لدى النظام السوري أيّ مانع أخلاقي أن يرسلهم جميعا للمحرقة إن وُضع بالزاوية.

أما العقدة الثالثة فهي دولية، حيث باع النظام السوري قراراته بالكامل لإيران من أجل أن تدعمه، قراراته العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبما أن إيران غير مهتمة إن دُمرت سوريا أم لم تُدمّر، فإنها ستدفع النظام لمواصلة حربه حتى آخر شبر يمكن أن يبقى فيه، وحتى آخر قطعة سلاح يمكن أن تقدمها له.

من واقع هذه العُقد، واضح أن النظام السوري لن ينتهي إلا بانتهاء موارد الدولة، وهذا يعني انهيار سوريا قبل انهياره، أو بفك ارتباطه كليا بإيران، وهذا يعني انهيار مشروع إيران الفارسي القومي الذي يأخذ غطاء طائفيا، أو إقناع الدول الداعمة للمعارضة بأن تفتح مستودعات السلاح للمعارضة السورية، وهذا يعني وجود بديل مقبول ترضى عنه.

المفارقة بالأمر، أن مقاتلي المعارضة الذين حققوا الانتصارات لم يتباهوا ولم يبيعوا السوريين الوهم بانتصار نهائي قريب، بل حذّروا بأن عملهم يجري خطوة خطوة، وهو عملية كرّ وفرّ، وأن أمامهم وقتا طويلا لتحقيق النصر الناجز، بينما المعارضة السياسية التي لم يكن لها أيّ علاقة بالانتصار العسكري ولا تملك أيّ تأثير في الميدان، هي التي راحت تعد السوريين بسقوط النظام خلال أيام وبفقدانه السيطرة وبدء انهياره، وتُضخّم قوة المقاتلين الذين يعيشون ظروف حرب شبيهة بقسوة الحرب العالمية الأولى ويناشدون كل من يقدر أن يمدهم بالسلاح والذخيرة.

لا شك أن السوريين اعتادوا على هذه المعارضة، أو ما يطلقون عليها “معارضة الفنادق”، فهم يذكرون تماما كيف كان معارضون مخضرمون بارزون كُثر يظهرون على شاشات الفضائيات في مراحل مبكرة من الثورة، ويوهمون السوريين بأنهم على قرب من أصحاب القرار الدوليين وأنهم ضمنوا بدء التدخل الخارجي خلال أيام، ووعدوا الثوار بوصول السلاح الفتاك خلال أسابيع ودون حساب، وأعلنوا أن مصادرهم من داخل النظام تؤكد بدء انهياره، وغير ذلك من الوعود والتوقعات الخلّبيّة، وهو ما أثّر سلبا على الثوار، وزاد الانخراط بالعمل المسلّح باعتباره مهمة مؤقتة قصيرة يسقط بعدها النظام، وهذا أدى إلى سقوط الكثير من الضحايا المتحمسين للحل العسكري.

الواقع الميداني على الأرض لا يشير إلى وصول أيّ أسلحة نوعية إلى ثوار جنوب سوريا، ولا دخلها “آلاف المقاتلين” الذين قِيل إن الأميركيين دربوهم طوال أشهر، ولا من أيّ مؤشر على بدء انسحاب النظام من دمشق نحو الساحل، والشيء الوحيد الحقيقي على الأرض أن النظام السوري استغلّ هذه التحليلات والتسريبات الإعلامية ليشن غارات جوية قاسية ومدمرة على قرى وبلدات حررها الثوار وقصفها طوال الأسبوع الماضي بالمدافع والطيران بشكل عنيف ومتواصل، وكأن شيئا لم يحدث.

التردد والتأخر الدولي، الغربي والعربي، في دعم المعارضة السورية بالسلاح النوعي لا يعني أن النظام السوري في موقف القوي أو أنه مسيطر على سوريا، فالرئيس الأسد مازال على رأس السلطة فقط بفضل مساعدة حلفائه مثل إيران التي تشرف على عشرات الآلاف من مقاتلي ميليشيات حزب الله اللبنانية والميليشيات الشيعية العراقية والإيرانية والأفغانية، فضلا عن استمرار روسيا بتزويده بالأسلحة والفيتو السياسي، ومع كل هذا الدعم فإنه لا يمكن له أن يحسم عسكريا، فهذا حلم بعيد المنال لأن إرادة الشعب تناقض هذه الرغبة.

عمليا، يقاتل ثوار سوريا على جبهتين، جبهة النظام وجبهة المسلحين المتطرفين والتنظيمات الإرهابية، ويحتاجون إلى مساعدة عسكرية جدّية لقلب موازين القوى بشكل حاسم لمصلحتهم، لإرساء مرحلة انتقالية إلى الديمقراطية، وهو أمر صعب التحقق إلا إذا لاحت في الأفق مساعدات عسكرية نوعية وهو أمر مازال يحتاج إلى زمن، أو أن يتعرض النظام إلى عملية انقلاب من داخله تشرّع أبواب انتقال السلطة وهو طريقة أسرع، وإذا لم يحدث هذا أو ذاك فإن الحرب ستستمر ربما لسنوات.

الممكن الآخر، هو أن يستفيد الثوار والمعارضة السياسية من الانتصارات العسكرية للمعارضة والنظر إليها كمكسب تكتيكي، يجب دعمه وزيادته لتطويق النظام وإضعافه، وحصاره سياسيا وعسكريا، وإرغامه في مرحلة ما للقبول صاغرا بالحل السياسي، أو بالمعنى الأدق القبول ببيان جنيف، الذي ستُشكل من خلاله حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات تدير شؤون البلد وتنقلها تدريجيا إلى بلد تعددي تداولي، وتُنهي النظام بصورته الحالية، أفرادا وجماعات، دون أن يُتاح لهذا النظام الفرصة لاستكمال تدمير سوريا.

بيع الوهم أمر سهل، وهو لا يحتاج إلا إلى منبر إعلامي حتى لو كان متواضعا، وعلى المعارضة السورية أن تضع نصب أعينها مآسي ملايين السوريين المساكين بعيدا عن امتيازاتها ومصالحها الشخصية وأحلامها هي الأخرى، وتقف مرة واحدة موقف رجال دولة، وتتحدث عن الواقع دون وهم، وتُخبر السوريين أنه مازال أمامهم وقت عصيب يجب أن يحتملوه، وأن النظام ليس على حافة الانهيار، وسيستمر بقتل المدنيين بالمئات يوميا بالطيران الحربي والبراميل المتفجرة والقنابل العنقودية والصواريخ، وسيواصل تجويعه للسوريين بالحصار، وأن أحدا غيرهم لن يحك جلدهم، وعليهم الصبر حتى يحققوا حلمهم بالكرامة والحرية.

العرب اللندنية _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى