يحق لكل إنسان أن تكون له آراؤه الخاصة، وأن يجهر بها من دون أية مساءلة، فهذه هي الحرية التي أكثر ما تتجلى في حُرية التعبير، ولكن، بشرط ألا تسيء إلى الآخر.
هذا ببساطة تعريف الحرية. وأفهم ألا يكون هناك إعلام مُحايد، بل ما أروع (كما يُروع ملايين المشاهدين) أن تسمع خبراً في فضائية تجاه سياسي مُعين، ثم تسمعه في فضائية أخرى لها اتجاه معاكس، لكن يشترك الجميع في صفة واحدة، هي الانتصارات.
الكل مُنتصر على مملكة الخراب. ليست هذه السطور بصدد مناقشة الإعلام غير المُحايد، لكن، لفت نظري، إلى حد لا يُمكن السكوت عنه، تكرار الإعلامي في قناة الجزيرة، فيصل القاسم، عبارة قرد قرد، كما لو أنها شعار، أو توصيف للطائفة العلوية الكريمة.
والقاسم حر في موقفه من النظام السوري، ومن حقه الجهر به، والدفاع عنه، وأقدر تألمه وأذيته من النظام السوري. لكن، هل يحق له أن يسخر من السوريين العلويين، وينتقص منهم، حين يكرر مراراً، وفي عدة حلقات من برنامجه “الاتجاه المعاكس” كلمة قرد قرد.
ألا يحق لكل سوري علوي أن يتألم من تلك الكلمة التي يختزله فيها فيصل القاسم؟ وهي كلمة تُعبر عن عدم الاحترام والتعالي، والنظر إلى الآخر بدونية والسخرية منه. ولو فرضنا أن العلوي يستعمل كلمة قرد في مواقف مُعينة، فأين المشكلة؟ ومهما كان موقف فيصل القاسم من النظام السوري، وهو بالتأكيد حر في موقفه، لكنه حين يكرر كلمة قرد قرد، متعمداً السخرية، والتقليل من شأن العلويين، فإنه لا يُهين النظام بل طائفة، هي من نسيج المجتمع السوري ومكون رئيسي فيه.
وصدقاً، أعترف أنا التي اتخذت قراراً أن لا أترك وطني، على الرغم من إحساسي بعدم الأمان، وعلى الرغم من معاناتي التي لا توصف فيه، وأنا أرى إخوتي السوريين يُقدمون كباش محرقة لشياطين العالم والدول الكبرى في الإجرام، إلا أنني لم ألمس أبداً الطائفية في سورية، وطوال سنوات دراستي في كلية الطب، وعملي طبيبة عيون، لم يخطر ببال أحد أن يسألني إن كنت من أسرة بيطار المسيحية أم المسلمة.
وأجمل ما يميز المجتمع السوري، واللاذقية تحديداً، أنك يمكن أن تجد في مقاهي البحر سيدة محجبة، وأخرى تلبس تنورة قصيرة وبلوزة بدون أكمام تجلسان معاً، صديقتين رائعتين، تتبادلان الحديث وتدخين الأرجيلة. هذا هو المجتمع السوري.
وفي هذا الجحيم، يجب ألا يلعب الإعلام دوراً تحريضياً وطائفياً، وأن يُغذي بذور الطائفية أو يزرعها. لا يُمكن قبول، ولا بأي شكل، أن يطرح إعلامي مشهور، مثل فيصل القاسم، سؤالاً ليستفتي عليه جمهور برنامجه: ألا يجب على العلويين أن يتألموا وينزحوا؟ سؤال جمّد الدم في عروقي، وأنا أتخيل الآثار السُمية لهكذا سؤال، كمن يُلقي الملح على الجرح النازف ليزيده ألماً.
ألم يمت مئات الآلاف من الشبان العلويين في الجيش السوري؟ ما ذنبهم، وهل كان قرارهم أن يحملوا البندقية؟ كم من العائلات المسيحية والسنية والعلوية هرّبت أولادها، كي لا يتحولوا إلى أوراق نعي؟ لك كل الحق، يا أستاذ فيصل، أن تنتقد النظام السوري وأجهزة المخابرات، ولكن غريب ومستهجن أن توجه الحلقة، كما لو أنها سهم تُريده أن يصيب نقطة معينة، هي تجريم طائفة بأكملها لأنها علوية.
ما رأيك لو تلتقي الأمهات العلويات الثكالى، وبعضهن دفن أكثر من ابن؟ ما رأيك لو تلتقي أم ماهر التي مات أولادها الثلاثة، وتحولت إلى أيقونة للألم، ولم تتحول إلى قرد قرد؟ هل تتخيل، يا أستاذ فيصل، شعور ملايين السوريين العلويين، وأنت تسخر منهم وتختزلهم في كلمة قرد قرد.
وبالمناسبة، فقد درّسنا في كلية الطب أستاذ مشهور جداً، ولديه كتب في التاريخ، وهو مسيحي ودرس الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، وكان يستعمل تعبير قرد، ولا أعرف أين تعلمه في سورية، مع العلويين أم في الجامعة الأميركية؟
يكفي ما يتعرض له السوريون من نزيف ومؤامرات وظلم وموت وتهجير من كل الأطراف، آن لهذا الشعب الذي يتحمل مأساة أطلقت عليها عدة فضائيات مأساة القرن، أن يرأف به الإعلام، ويحترمه شعباً واحداً وجرحاً واحداً على الأقل. وألا تكون البرامج التلفزيونية من نوع صب الزيت فوق النار.
العربي الجديد _ وطن اف ام