فعلها وليد جنبلاط. كعادته فاجأ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبنانيين، مخالفاً التوقعات التي تريده متقلباً ومهادناً. وراح، ببرودة أعصاب وتصميم لافتين، يكشف الحقائق، ويسمي الأمور بأسمائها، في إدلائه بشهادته في لاهاي أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، حول جريمة اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق، رفيق الحريري.
جنبلاط ملم بوقائع ومعطيات كثيرة، وعليم بخفايا الأمور التي أحاطت بتلك المرحلة التي حملت بشار الأسد إلى السلطة في سورية خلفا لوالده حافظ الأسد، وتحديدا بين سنتي 2000 و2005، والتي كان خلالها جنبلاط على تقارب وتنسيق تام مع الحريري. وكان أيضا الشريك، لا بل المبادر منذ عام 2000 إلى خوض معركة التصدي لنظام الهيمنة السورية على لبنان، بالتنسيق مع “لقاء قرنة شهوان” المسيحي، وبمباركة ضمنية من الحريري نفسه، مطالبين بخروج الجيش السوري من لبنان بعد وصاية، قال عنها جنبلاط بالأمس مصححاً إنها كانت احتلالا، ودامت نحو ثلاثين سنة.
إلى لاهاي، رافق جنبلاط نجله تيمور الذي بدأ يحضّره لوراثته السياسية، وزوجته نورا، واثنان من أركانه، هما الوزير الحالي والمقرب جدا منه، وائل أبو فاعور، والوزير السابق، غازي العريضي. على مدى أربعة أيام، تكلم جنبلاط ورد على أسئلة المدعي العام بأجوبة واضحة ومباشرة ومختصرة، متحاشيا الدخول في أفخاخ التفاصيل. بدا كأنه أعد شهادته بإتقان، مستفيداً، على الأرجح، من المناخ السياسي الملائم، والناتج عن مجموعة عوامل وتطورات إقليمية، بدءاً من “عاصمة الحزم” في اليمن، وانتهاء بسورية التي مني جيشها بأكثر من هزيمة، وخسر أكثر من محافظة أخيراً.
وكان من المفترض أن يتوجه جنبلاط إلى الإدلاء بشهادته، قبل نحو شهرين، بالتزامن مع شهادة رئيس الحكومة السابق ورفيق درب الحريري، فؤاد السنيورة، إلا أنه طلب تأجيلها الى الأسبوع الماضي. وكان تصويبه واضحاً ومباشراً على النظام السوري، وبشار الأسد تحديداً، الذي اتهمه صراحة، وحمّله جريمة قتل الحريري. فقد بدأ من بعيد، من جريمة اغتيال والده كمال جنبلاط، التي حصلت في 16 مارس/آذار 1977، قبل 38 سنة، أي بعد أقل من سنة على التدخل العسكري لجيش حافظ الأسد في لبنان، فقد استرجع جنبلاط اللقاء العاصف والأخير الذي جمع والده برئيس النظام السوري، قبل ثلاثة أشهر من اغتياله، وما قاله والده للأسد الأب في ذلك اللقاء من أنه يرفض أن “يدخل السجن الكبير”. وهو لقاء يشبه إلى حد بعيد اللقاء الأخير الذي جمع الحريري بالأسد، في 26 أغسطس/آب 2004.
أكد الزعيم الدرزي أن النظام السوري هو من ارتكب الجريمة، مقدماً وقائع وشواهد ومعلومات عن التحقيق وعن المنفذين الذي التجأوا يومها إلى سورية. وقد مُنع القاضي المكلف بملف الجريمة إصدار مطالعته وحكمه. وتكلم جنبلاط عن اغتيال شخصيات لبنانية أخرى طوال سنوات الوصاية السورية، مؤكدا أن القاتل واحد، من جنبلاط الأب الى الحريري.
وكانت المواجهة الأصعب مع محامي الدفاع الذين أظهر بعضهم صلافة غير معهودة، في طريقة طرح الأسئلة، والسعي إلى تركيب نوع من “معادلة حسابية”، تجعل من خطابات جنبلاط محرضاً على القتل، إلا أن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي لم ينجر إلى هكذا استفزاز، وحافظ على برودة أعصابه، متسلحاً بـ “الاتهام السياسي” الذي هو حصيلة إمساك النظام السوري بمفاصل القرار السياسي والأمني، عبر أجهزة المخابرات السورية واللبنانية، والتعبئة والتحريض الذي كان يمارسه رأس هذا النظام وأدواته، ضد الحريري وعدد من السياسيين اللبنانيين.
لا يملك جنبلاط، بطبيعة الحال، تقديم حيثيات ووقائع عن الجريمة، وليست لديه معرفة بهوية المنفذين. لذلك، كان يكرر تأكيده أن اغتيال الحريري جريمة سياسية، كما صنفتها المحكمة الدولية نفسها. وقد استعان، أيضاً، للإجابة على أسئلة الدفاع بمسلسل “الوفيات الغامضة والمفاجئة” التي طاولت مجموعة من الضباط السوريين الكبار، كان آخرهم اللواء رستم غزالي الذي كان حاكم لبنان الفعلي في السنوات الأخيرة، وعشية اغتيال الحريري حتى انسحاب الجيش السوري في 26 إبريل/نيسان 2005. وأكد جنبلاط أنها “تصفيات سياسية”، استهدفت تحديدا الضباط الذين خدموا في لبنان، أو كانوا على علاقة بالملف اللبناني، والذين يتلقون أوامرهم من بشار الأسد، من أجل طمس معالم الجريمة وأدواتها والمتورطين فيها.
العربي الجديد _ وطن اف ام