مقالات

نجاتي طيّارة – حمص وساعة الحرية

أعاد النظام السوري، قبل أيام، في الذكرى الأولى لفك حصار حمص، وخروج المقاتلين منها، ساعة حمص الشهيرة إلى العمل، في احتفال ومهرجان يراد لهما تأكيد انتصاره، وبسط سيطرته على المدينة التي هدم قلبها القديم وبعض أطرافها، فجعل صورتها أفظع من صور خرائب المدن الألمانية، في نهاية الحرب العالمية الثانية.

الاحتفال بتشغيل الساعة المذكورة، وجعلها محور الذكرى، بما رافقه من الإخراج التلفزيوني لمشهد تغطية الساعة كلية بعلم النظام، ثم كشفه عنها مع عودة دقاتها للعمل، يُراد له، أيضاً، أن يحل صورة مشهدية قوية ولافتة، لكي تمحو مشهد يوم الاعتصام الشهير والدامي وصورة هذه الساعة التي صارت من رموز الثورة السورية وأيقوناتها. ذلك أن مدينة حمص كانت قد قامت، يوم الجمعة في الخامس والعشرين من مارس/آذار 2011، بعد تدريب أولي في يوم الجمعة السابق، لم تتجاوز فيه أول طريق حماه، فنزل جمع غفير من شبابها إلى الساحة الرئيسة وسط المدينة، وأحاطوا بالساعة الكبيرة ذات النصب الرخامي الأبيض والأسود، والتي كانت قد تبرعت بها، قبل عشرات السنين، المغتربة الكريمة كرجية حداد. ضجّت الساحة يومها بشعارات إسقاط المحافظ وإسقاط الطوارئ، وحُملت صبيةً على الأكتاف من بين من حملوا، لتشارك الهتاف والمتظاهرين، لكن النظام واجههم بكل ما عرف عنه من تصلب وانغلاق، وبدأ مسيرة الحرب والتدمير الشامل ضدهم، ولا يزال.

الساحة، والساعة، والمدينة، صارت أكبر وأكبر، فقد تعلّم ناس حمص الكثير في الأيام والأشهر اللاحقة. هكذا، خرجوا من سباتهم الطويل، لم يعودوا رعية، لا يعرفون سوى نعم، لم يعودوا فقط أصحاب فكاهة وخفة دم، و”نكتة الحمصي” التي كانت وحدها وراء ضحكات السوريين في ظل سنوات الخوف الطويلة، بل أصبحوا، أيضاً، مواطنين مشاركين ورافعي الرأس، يقولون لا بقوة ومن دون خوف.

صارت الساحة مقصد مظاهراتهم واجتماعهم، عندما يتحدرون من مختلف الأحياء والجهات، حتى تحولت أكبر الجنازات التي شيّعوا فيها ثلة من شهدائهم، يوم الاثنين في 18 أبريل/نيسان إلى اعتصام مفتوح ملأ الساحة، والتف حول الساعة التي صارت مقر اجتماع ومنبر خطابة أيضاً.

ومن يومها، لم تعد الساحة ساحة جمال عبدالناصر باسمها الرسمي، ولا ساحة التحرير باسمها الشعبي، بل صارت ساحة الساعة. ولم تعد مجرد ساحة لنصب معماري، أو ساعة توقيت، لا أحد ينتبه إلى توقيتها، صحيحاً أو معطلاً كما في أغلب الأوقات، بل قلب مدينة طالما افتقدت قلبها. وصارت أخبار الصدامات وتعبيرات التظاهر حولها الشغل الشاغل لأهل المدينة وناشطيها، لا يختلف في ذلك صغارهم عن كبارهم، فالجميع يتناقل أحداثها سواء بتفصيلات وقصص، أو بهمس واختصار، كما لو أنهم يتناقلون شريطاً عاجلاً شوهد على محطات فضائية.

وعندما مُنع الشباب من الوصول إلى الساحة فيما بعد، إذ نصّبت السلطة العاتية كل حواجزها وأرتال قواتها، فقطّعت أوصال المدينة، وأغلقت مداخل الوصول إلى وسطها وساحتها، كرر الشباب محاولات الوصول إليها، في البدء أيام الجمع، ثم في كل الأيام بمظاهراتهم الطيارة متحدين أحياناً، وأخيراً، مكرسين ساحات أحيائهم ساحات بديلة لممارسة احتفالهم بالخروج من الصمت والعبودية.

وما لبثوا أن صنعوا نموذجاً شبيها للساعة التي منعوا من الوصول إليها، ولسان حالهم يقول: ما دمتم تحرموننا منها، فسنجلبها إلينا.

هكذا، صارت بدائل الساعة تصاحب مهرجانات الثوار ومظاهراتهم. بدأ ذلك في ساحة الزاوية قلب حي باب هود، ثم في جنينة علو قلب حي الخالدية، حيث تكاملت مع منصة الخطابة ومحطة البث المباشر، إلى أن أصبحت رمزاً للمظاهرات السورية وأنصارها في أرجاء الوطن والعالم.

وحول تلك الساعة البديلة، ارتفعت أجمل هتافات الثورة، وغنى عبد الباسط الساروت. ومنها أذيعت أجمل أغانيه، وانتشرت بين جماهير المظاهرات السورية. وحولها، ارتفعت صور الشهداء والمعتقلين، واللافتات المطالبة بشعارات الثورة السلمية، وأولها: إسقاط النظام، وواحد واحد الشعب السوري واحد، ثم، صارت كل إشارة إلى الساعة إشارة إلى الثورة عموماً، وإلى الثورة في حمص خصوصاً.

ولم تلبث مدينة حمص التي لم تكن، يوماً، عاصمة، أن أصبحت عاصمة للثورة، وعاصمة للقلب، تعصم مواطني حمص الذين لن يكفّوا عن رفع رؤوسهم، طالبين المساواة وإلغاء كل تمييز. فووجهوا بما لم تواجهه ثورة وشعب في التاريخ، وعندما فرض على ثوارها خيار الجوع أو الركوع، بعد عامين مشهودين من التدمير والعنف، تحقق لهم خيار الخروج من الحصار إلى ساحات أخرى. وها هي أخبارهم تقول، إن بعض كتائبهم تقاتل من جديد، وتشارك في تحرير إدلب وجسر الشغور، كما أن كتائب أخرى منهم تتوحد، وتشارك في معارك ريف حمص الشمالي. أما الساعة، فالمؤكد أن صورتها باقية، تنير وجدان كل منهم، وهم يتطلعون، بكل قوة، إلى لقائها في ساحتها الحقة.

اليوم، تستطيع السلطة العاتية أن تقيم احتفالاتها، وأن تسير مؤيديها وشبيحتها، كما فعلت طوال نصف قرن مضى. لكن، كما أنها لم تستطع منع ما حدث، لن تستطيع محوه، كما حاولت مع مجزرة حماة، عندما كان الصمت مطبقاً على سورية، فكيف إذا كانت صور ساعة حمص واعتصامها ومجزرته، مشهودة لا في ذاكرة الناس وحسب، بل ومسجلة بكل التقنيات المعاصرة. وستبقى صور خروج مواطني حمص حول ساعتهم، وتعبيرهم عن إرادتهم الحرة ماثلة في الوجدان السوري. وهي مضيئة مثل جمر متوقد أبداً، ولن تنطفئ، حتى الاحتفال بها وبانتصارها، طال الزمن أم قصر.

تلك هي ساعة الحرية وحمص التي ستقوم من جديد، من بابا عمر إلى الخالدية، ومن باب السباع إلى باب هود والغوطة، ومن باب تدمر إلى الحميدية، إلى الوعر، ومن البياضة إلى الدبلان، إلى كل الأحياء. ستقول لكل الطغاة، أنتم إلى زوال، وأنا الباقية، عدية، وعصيّة حتى الحرية.

المصدر : العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى