أبرز ماجاء في مذكرات فاروق الشراع “الرواية المفقودة” .. الجزء الأول (3/1)
تنشرُ وطن اف ام عبر ثلاثة أجزاء، ملخصاً مكثّفاً لكتاب “الرواية المفقودة” لمؤلفه فاروق الشرع، وزير الخارجية السوري السابق ونائب الرئيس الحالي، و الصادر حديثاً عن عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وذلك نقلاً عن “العربي الجديد”.
وسيتم نشر المقالات تباعاً على مدى ثلاثة أيام، نظراً لما يحمله من معلومات تنشر لأول مرة عن الرواية السورية للمفاوضات مع إسرائيل وتفاصيل أحداث مفصلية في سورية والمنطقة.
وفيما يلي عرضٌ لأبرز المحطات والمراحل التي جاءت في الكتاب:
تبدأ المذكرات بسرد قصير عن مرحلة الطفولة والصبا، بعنوان “بين النكبتين 1948 – 1967″، يتحدث فيها عن مشاركته في مظاهرات نصرة فلسطين، عقب النكبة 1948 وفتوته في درعا التي لم يعرفها حتى صار عمره تسع سنوات، ذلك أنه ولد في محردة بريف حماة، بسبب عمل أبيه هناك، وتنقّله بين أرياف حماة ودمشق.
مع حافظ الأسد
ثم يتحدث المؤلف عن عمله في البنك العربي، وشركة الكرنك، وفي مؤسسة الطيران، ويروي كيف تعرف عام 1961، أثناء حكم الانفصال، على حافظ الأسد، ويقول: “تعرّفت إلى الطيار المُسرَّح حافظ الأسد المعين في وظيفة مدنية في مديرية النقل البحري. عرّفني إليه ضابط زميل له اسمه إبراهيم الرفاعي. تحدثنا عن الوحدة والانفصال السهل الذي حدث ومسؤولية حزب البعث الذي حلّ نفسه، ومسؤولية عبد الناصر الذي طالب بحلّه، وكان هذا سبباً كافياً أنّ الوحدة لم تعمّر طويلًا. أذكر أنّ حافظ الأسد كان قليل الكلام، لكنه لا يتوقف عن التدخين”. وكيف نمت هذه العلاقة بعد استيلاء البعث على السلطة في 8 مارس/آذار عام 1963 بسبب عمل الشرع في مؤسسة الطيران التي كانت تتبع آمريّة الطيران التي يقودها حافظ الأسد.
“ومما لا شك فيه أنّ عملي كأحد المديرين في شركة الطيران العربية السورية، آنذاك، ساعدني بحكم تبعية هذه الشركة إلى وزارة الدفاع، على التواصل مع الوزير حافظ الأسد الذي لم تنقطع اتصالاتي به حتى عندما أصبحت مديراً إقليميًا لشركة الطيران السورية في لندن، في أعقاب حرب حزيران/يونيو 1967”.
وتضيء المذكرات جوانب غامضة من شخصية الرئيس حافظ الأسد، وعلاقته بالرئيس صدام حسين، وبرئيس منظمة التحرير ياسر عرفات، وبأخيه رفعت الأسد، وغيرهم، كما تكشف تفاصيل أحداث مهمة، كمحاولة اغتيال الأسد من قبل الإخوان المسلمين، والتي كان شاهدًا عليها: “زار الرئيس النيجيري حسين كونتشي سورية، كان إلحاحه كبيراً علينا في أن يزور مقام الصحابي بلال الحبشي، مؤذن الرسول في دمشق. عند انتهاء زيارة الرئيس النيجيري في 26 حزيران/ يونيو 1980 كنت إلى جانبه في انتظار قدوم الرئيس الأسد لاصطحابه من قصر الضيافة إلى المطار. فجأةً ونحن نودّع الرئيس النيجيري على الدرج الضيق الخاص أمام قصر الضيافة وقع الانفجار. أبعد الرئيس الأسد بشكل عفوي القنبلة الأولى بقدمه، بينما ارتمى مرافق الرئيس الخاص اللواء خالد الحسين بجسده على القنبلة الثانية”.
سنوات الاختبار
عين الشرع سفيرًا في إيطاليا 1976 وكان أول ما واجهه هو هجوم جماعة أبو نضال على مبنى السفارة.
بعد تعيينه وزير الدولة للشؤون الخارجية عام 1980، يشير الشرع إلى اختلافه مع توجهات وأفكار وسلوكيات وزير الخارجية، نائب الرئيس عبد الحليم خدام، ولا سيما دوره السلبي في اقتتال أمل وحزب الله، وأمل والفلسطينيين. ويروي صدامه الأول معه في المؤتمر القومي الثالث عشر في آب/أغسطس 1980، فقد دعا خدام إلى “قطع العلاقات مع من لا يقف مع جبهة الصمود، وطالب بسحب موافقة سورية على قراري مجلس الأمن 242 و338، أكدتُ أن هذا الموقف سيؤلّب المجتمع الدولي ضد سورية، وأوضحت أن الدولة العربية الوحيدة التي ستقف معنا في هذه الحالة هي ليبيا.
الشرع وزيرا للخارجية 1984-2006
الرئيس الأسد عندما تكلم لمدة أربع ساعات، استخدم أكثر من مرة بعض عباراتي وسط ذهول الجميع، وتأييدهم له، وفي مقدمتهم خدام نفسه الذي أشاد بسرعة بحنكة السيد الرئيس وبُعد نظره وصواب رؤيته تجاه قرارات الأمم المتحدة. أما خارج قاعة المؤتمر، فقد طلب الرئيس ألا آخذ كلام خدام بجدية”.
كما يروي الشرع جانباً من سلوكيات خدام: “في الرحلة القصيرة بين صنعاء وعدن، ضحكنا (الرئيس الأسد والوفد المرافق) كثيراً على عبد الحليم خدام، وهو يغافل الرئيس صالح في المطار، ويختطف من يديه مسبحة بآلاف الدولارات، كما قال صالح، وهو يركض خلف خدام لاستعادتها من دون طائل”.
لبنان
يصف مشاركته في الشأن اللبناني بصداع الرأس، ولكنه يسرد بعض المهام التي كلفه الأسد بها، ومنها مفاوضات أمل وحزب الله، لوقف الاقتتال بينهما، وصوغه عام 1987 والعميد غازي كنعان مع مستشار الرئيس اللبناني للشؤون الخارجية إيلي سالم، ومدير مخابرات الجيش اللبناني العقيد سيمون قسيس، صيغة “ميثاق وطني” سيشكل لاحقاً أحد أسس اتفاق الطائف.
كما يسرد الشرع تفاصيل لقاءات المبعوث الأميركي فيليب حبيب مع الرئيس الأسد، عشية اجتياح لبنان 1982 وبعده، وكيف غضب منه الأسد، وأبلغه بأنه شخص غير مرغوب فيه في سورية.
ويوضح الشرع كيف تعامل الأسد مع عرض الخميني إرسال مائة ألف مقاتل إلى لبنان، والذي لم ينتج عنه بعد فترةٍ غير دخول أعداد محدودة من الحرس الثوري الإيراني، لدعم عملية إخراج القوات متعددة الجنسيات من لبنان. واختار الأسد عدم قبول عرض الخميني، كي يشير إلى حدود الموقف السوري من إيران، وعدم موافقة سورية على خلخلة النسيج اللبناني بهذه الأعداد الكبيرة من مقاتلي “الحرس الثوري الذين كانوا سيأتون إلى لبنان ومعهم أكفانهم”.
كما يورد الشرع تفاصيل تسليم الطيار الأميركي الأسير عند سورية، بوبي غودمان، إلى القس جيسي جاكسون، ولويس فرخان زعيم جماعة “أمة الإسلام”، وكيف أغلق سماعة الهاتف في وجه الرئيس ريغان: “كان يقرأ من نص مكتوب يتهم فيه سورية بالضلوع في الإرهاب. قاطعه الرئيس الأسد مرارًا، ولكن ريغان لم يتوقف عن تلاوة النص الاستفزازي المعدّ المكتوب له. غضب الرئيس الأسد، وصرخ على الهاتف: “ألا تعرف مع من تتحدث؟ أنا حافظ الأسد رئيس سورية، وأغلق الخط”.
ويروي الشرع أنه من اقترح عام 1989 اسم الأخضر الإبراهيمي ليكون سكرتيراً للجنة العربية بشأن لبنان، ثم عاتبه الأسد، بأن السعوديين استحوذوا على الإبراهيمي، وأن وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، قال للشرع “الأخضر أهلكنا بنفقاته الباهظة لإقامته في فرنسا”.
عرفات
لم تكن العلاقة ودية بين عرفات والأسد، وحاول الشرع، كما يقول، أن يحتفظ بعلاقة طيبة مع عرفات لتخفيف ثقل علاقة الأسد – عرفات. ويقول: “وافق (الأسد) من دون حماس في 24 حزيران/يونيو 1983 على إبعاد عرفات عن سورية، بنصيحة من خدام وحكمت الشهابي. تم إبعاد عرفات بشكل مهين من سورية، ورافقه ضابط إلى طائرة كانت تنتظره لتقله إلى تونس. كنت أتابع ذلك بعدم ارتياح، لأن هذا التصرف لا يخدم المصالح الوطنية لسورية، ولا موقفها من القضية الفلسطينية. ادّعى خدام والشهابي أن عرفات عقد مؤتمرًا هاجم فيه بشدة الرئيس حافظ الأسد، ونال من مكانته ودوره في الأزمة اللبنانية. فقمت مستعينًا بوسائلي الخاصة بمحاولة الحصول على حديث عرفات، ولم أعثر عليه”.
قصة رفعت
يروي الشرع جانباً من قصة الخلاف بين الرئيس الأسد وشقيقه رفعت، ويؤكد أن الرئيس كان ينظر إلى ما فعله رفعت بأنه “مغررٌ به” ويسرد كيف منع تقريرًا تلفزيونيًّا (بحكم تسييره وزارة الإعلام خلال مرض وزيرها أحمد إسكندر أحمد) يظهر رفعت بعصا الماريشالية ويعرض جميل الأسد، رئيس جمعية المرتضى، محمولاً على الأكتاف، وكيف أقنع الشرع الروس باستضافة المبعدين من كبار الضباط ورفعت، وماذا جرى في الطائرة التي أقلتهم إلى موسكو: “في الطائرة حدثت المشادات الأكثر عنفًا وصخبًا بين شفيق فياض ورفعت الأسد، ووصلت الأمور إلى حد إشهار السلاح، وهما يجلسان وجهًا لوجه في مقصورة الدرجة الأولى. وكانت المشادات تدور حول قضايا شتى، كان من أهمها تراشق الاتهام المتبادل بعدم الوفاء لبعضهما بعضاً، و”الخطوط العسكرية” مع لبنان واستخدامها من قبل بعض التجار والمهربين وإشكالات التنافس “غير الشريف”… وكان العميد محمد الخولي، مدير فرع المخابرات الجوية يسد أثناء ذلك الباب الواصل إلى قمرة الطيارين بكلتا يديه.. ولم تهدأ الأمور إلا بعد أن امتلأت البطون بالطعام والشراب، وهي العملية التي أشرف عليها العميد الخولي، فاستبدلت الاتهامات وإشهار السلاح في لحظة “رحمانية” بعناق ومصافحات بين رفعت وفياض”.
العراق
يكشف الشرع تفاصيل اجتماع سري في الأردن دام 11 ساعة عام 1986 بين حافظ الأسد وصدام حسين، لطيّ الخلاف بينهما، بمساعٍ من الملك حسين الذي “من شدة حرصه على سريّة هذا اللقاء يوصل بيديه المأكولات للرئيسين من خلف الباب. أصرّ صدام على أن تصدر سورية بيانًا بإدانة إيران كشرط للمصالحة، ولكنّ الأسد لم يوافق على ذلك، لأن البيان سيحدث ضجة من دون نتيجة عملية”.
وأقرّا استمرار اللقاءات السرية على مستوى وزيري الخارجية، والتي تمّت بالفعل بين الشرع وطارق عزيز في الأردن.
كما يروي تفاصيل المشادة التي دارت بين صدام والأسد في قمة الدار البيضاء 1989، إذ خرج الرئيس الأسد من الاجتماع محتقناً وغاضباً، وقال للشرع “صدام يريد أن يعيدنا إلى القرون الوسطى، وأن يشكك في عروبتنا وأصولنا، حاول الملك الحسن الثاني خلال مأدبة غداء مصغرة أن يخفف من الأجواء المحتقنة بين الرئيسين الأسد وصدام. أصبحت لهجة الرجلين أقل تشنجًا وغضبًا عندما اعترف صدام بأنه حاول إطاحة الأسد، ولكنه فشل، فعاجله الأسد بالمثل قائلًا: لقد حاولت إطاحة صدام حسين ولكني لم أوفق أيضاً”.
مؤتمر مدريد ووديعة رابين
يتحدث الشرع بإسهاب عن اللقاءات والتحضيرات التي سبقت انعقاد مؤتمر مدريد، وعن نص الدعوة ورسالة التأكيدات الأميركية وتشكيلة الوفد السوري برئاسة السفير موفق العلاف، والموقف من المفاوضات المتعددة وتغيير مكان المؤتمر من لاهاي إلى مدريد بإلحاح سوري بسبب مواقف هولندا غير الودية، وعدم وجود سفارة سورية فيها.
وكيف رفع صورة شامير الإرهابي في المؤتمر، وكيف رفض الشرع مرارًا وتكرارًا أي مصافحة مع مفاوضيه الإسرائيليين.
كما يسهب الشرع بسرد تفاصيل قصة وديعة رابين التي نُسجت أولى خطواتها عام 1993 مع زيارة دنيس روس حاملاً رسالة للأسد من كلينتون: “أسرّ (روس للأسد) له على انفراد لدقيقتين أن رابين موافق على الانسحاب الكامل من الجولان، إذا تمت تلبية حاجاته الأمنية”. وتأكدت الوديعة خلال جولات وارن كريستوفر عام 1994 (ثماني زيارات لإسرائيل وسورية) حيث حمل جواب رئيس الوزراء الإسرائيلي “قال لي رابين إن الانسحاب الكامل هو إلى خطوط 4 حزيران/ يونيو 1967″. و”إن رابين يريد أن يتأكد أن متطلباته أيضًا سوف تتم تلبيتها، كما تمت تلبية طلباتكم”.
وكان الرد السوري “مقابل التزام إسرائيل بالانسحاب الكامل إلى خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، والذي نقله إلينا الوزير كريستوفر في 19 تموز/يوليو 1994، فإن سورية مستعدة للاستجابة للمقترحات الإسرائيلية التي تتضمن إنهاء حالة الحرب بين البلدين، وترتيبات أمنية متفقاً عليها، ورفع المقاطعة، ومشاركة سورية في المحادثات المتعددة الأطراف، وجدولاً زمنياً لتحقيق ذلك”.
عندما تلوت الورقة للمرة الثانية باللغة الإنكليزية أمام كريستوفر، أمسك الرئيس الأسد بورقة مكتوبة بين يديه وقرأها كما يلي: “هذه هي الورقة الأولى التي قدمت تقول بالانسحاب الكامل إلى خط 4 /6 /1967، والذي نقله إلينا السيد الوزير كريستوفر في 19 /7 /1994. أنا فهمت أن هذا مقابل علاقات سلم عادية، والأشياء التي نناقشها، أو مقابل متطلبات السلام. ولو عدنا إلى ما هو مكتوب سنجد الأمر كما ذكرت أنا، أي أن ما نقل إلينا التزام لا شكّ فيه. ولقد سألت كريستوفر ثم روس هل هناك أي شكوك في أن المقصود بالانسحاب الكامل من كل أراضي 4 حزيران 1967، وقالا: لا شكوك في هذا، وسألت هل هناك أي ادعاءات إسرائيلية بأراضي 4 حزيران 1967، قلتما لا. إذن كلنا نفهم شيئًا واحدًا”.
في القمة الثانية التي جمعت كلينتون والأسد 1994 في دمشق “سجّل الرئيس كلينتون في هذا الاجتماع، ولأول مرةٍ، وعلى لسان أعلى سلطة أميركية ممثلةً برئيس الولايات المتحدة، بأنه حصل من رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين على إقرارٍ باستعداد إسرائيل للانسحاب إلى خط الرابع من حزيران/ يونيو 1967 في إطار اتفاق متكامل، شريطة وضع هذا التعهد في جيبه في انتظار توصل الطرفين إلى اتفاقٍ حول بقية عناصر الاتفاق”.
قصة أوجلان
يحكي الشرع قصة إبعاد عبد الله أوجلان من سورية في عام 1998، وكيف أوفد الأسد اللواء عدنان بدر حسن، رئيس جهاز الأمن السياسي، إلى أوجلان الذي “وافق عن طيب خاطر على إبعاده من دمشق”. وكيف لجأ إلى اليونان التي وصل إليها على “متن طائرة ركاب سورية عادية بموجب جواز سفر تركي، وباسم حركي” ومنها غادر إلى موسكو ثم إيطاليا ثم “عاد مجددًا إلى اليونان التي أودعته سرًا في سفارتها في كينيا. وفي مطلع شباط/ فبراير 1999 اتصل أوجلان هاتفيًا مع اللواء عدنان بدر حسن، وأعلمه بشكوكه في أن العاملين في منزل السفير اليوناني في نيروبي، كانوا قد منعوه فجأة من إجراء أي اتصال هاتفي مع العالم الخارجي. بتاريخ 15 شباط/ فبراير 1999 ادعت السلطات الكينية بأن هناك طائرة في مطار العاصمة نيروبي سوف تنقل أوجلان إلى هولندا للإقامة فيها، ومنحه حق اللجوء السياسي، لكنه وجد نفسه يهبط في أحد مطارات تركيا”.
الحسّ النقدي
لا تغيب عن شهادة الشرع إشارته إلى بعض مواطن الخلل والفساد، ولكنه لا يدّعي أنه حارب هذا الفساد، ولم يدخل في معركة حاسمة معه، ولكنه، على أية حال، لم يكن متورطاً فيه.
يبدأ من النزوع اليساري الصبياني الذي ساد مرحلة الستينيات بين قيادات البعث “كانت أفكار “اليسار الطفولي” تطغى على ما عداها من الأفكار في أوساط القيادة، لدرجة أن محمد الزعبي، وزير الإعلام، الذي كان أيضاً عضواً في القيادة القطرية، آنذاك، كتب في زاوية جريدة الثورة مقالة عنوانها “أقسم باليسار” مقترحًا أن المرء من الآن فصاعدًا لا يجوز أن يستمر في أداء قسم اليمين، ولا يجب أن يسير إلا على الجانب الأيسر من الطريق”.
ويشير إلى أنه ترك مؤسسة الطيران بسبب عدم قدرته على ردع بعض المتنفذين من أخذ عمولات “عن صفقة الطائرات الجديدة التي كانت المؤسسة بصدد التعاقد عليها في عام 1974-1975. وإن الأسد كان يعترف بفساد حاشيته: “كان الرئيس يعلق عندما نتطرق إلى هذا الموضوع الحساس والخطر أن القيادة السابقة – رغم حماقة بعض أعضائها ويساريتهم الطفولية – أكثر نظافة من القيادة التي جاءت بعد الحركة التصحيحية”.
وفاة الأسد
تنتهي المذكرات بوفاة الرئيس حافظ الأسد 10 يونيو/حزيران عام 2000 وتحضيرات الجنازة وعملية توريث نجله بشار:
“صباح العاشر من حزيران/يونيو 2000، اتصل معي هاتفيًا اللواء آصف شوكت الذي تربطني معه معرفة قديمة، وطلب أن أحضر إلى بيت الرئيس في الحال، كان وزير الدفاع مصطفى طلاس ورئيس الأركان علي أصلان يهمّان بالجلوس. وصل بعد قليل نائب الرئيس عبد الحليم خدام بلباس الرياضة، بينما كان بشار الأسد وماهر الأسد يذرعان المكان ويتنقلان بين صالون الاستقبال وداخل البيت والقلق يعتريهما بوضوح، فهما لا يستقران في الجلوس بيننا حتى ينهضا من جديد. لكن العماد مصطفى طلاس كسر الصمت، واقترح مباشرة ضرورة تعديل الدستور كي يتمكن الدكتور بشار من تولي الرئاسة. وتابع بأن التعديل المقترح يتطلب إبلاغ رئيس مجلس الشعب عبد القادر قدورة، لعقد جلسة طارئة لهذا الغرض”.
مقدمة الناشر
كاتب هذه المذكرات فاروق الشرع، أحد أهم وزراء الخارجية العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق. ويُعتبر كتاب مذكراته هذا الذي يتوقف عند وفاة حافظ الأسد، شهادة تاريخية فائقة الأهمية على الأحداث التي عاشتها سورية ولبنان وفلسطين والمشرق العربي عموماً، والتي عاشها العالم من منظور هذه المنطقة.
إنها شهادة كتبها سياسي مثقف قادر على الاجتهاد في فرز الغثّ عن السمين، والشائعة عن الواقعة، والرأي عن الحقائق، ما يُكسبها أهميةً مضاعفةً.
كنا في طور تأسيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بداية عام 2010 حين ألحّ مؤسسه ومديره العام على نائب الرئيس السوري الأستاذ فاروق الشرع أن يكتب مذكراته كوزير خارجية، ويبدو أنّ آخرين فعلوا ذلك بمن فيهم أفراد عائلته. ولم يكن من الواضح أننا سوف نصدره بأنفسنا. وبعد حينٍ قرر الدكتور عزمي بشارة، والمؤرخ محمد جمال باروت، أحد باحثي المركز، المساعدة في تحضير الوثائق ومراجعة المحاضر الرسمية التي أتيحت له في حينه، وذلك لإنعاش ذاكرة الكاتب الخصبة.
كان الأمر الأهم بالنسبة إلينا هو أن ينفتح هذا الأرشيف الحي الماثل أمامنا؛ وذلك لمصلحة الأجيال العربية القادمة، وخدمة للدبلوماسية العربية المستقبلية والسورية بشكل خاص، وخدمة للباحثين والمؤرخين أيضاً. وكان همّنا مُنصباً على تجربة التفاوض السورية – الإسرائيلية؛ فقد كتب دبلوماسيون وعسكريون إسرائيليون مثل أوري ساغي وإيتيمار رابينوفيتش الرواية الإسرائيلية، وكتب دنيس روس وأولبرايت والرئيس السابق كلينتون وغيرهم الرواية الأميركية.
وظلّ الطرف السوري صامتًا كاتمًا روايته، يتكلم الجميع عنه ويلتزم هو الصمت. ومن هنا اقترحنا على الأستاذ فاروق الشرع أن تسمّى هذه المذكرات “الرواية المفقودة”. ولم نحتج إلى إقناع وزير الخارجية السوري بأنّ العالم يجب أن يعرف الرواية السورية عمّا جرى في المفاوضات، وأنّ الدبلوماسية السورية سوف تحتاجها في المستقبل للتراكم المعرفي. ولكنّ نائب الرئيس الشرع تريث، ربما ليدرس الأمر مع القيادة في سورية. ولكنه في النهاية وافق على الكتابة وانطلق المشروع.
كان لدينا تقدير عالٍ لكفاءة فاروق الشرع وقدراته، ولكنه مع ذلك فاجأنا بأسلوب الكتابة الجميل والسلس، والتعليقات الذكية، والقدرة على الملاحظة الحادة وتقييم الشخصيات. كما أنّ الكتاب تضمّن من المعلومات الجديدة والمهمة والتقييمات لها ما فاق تقديرنا. فمن يقرأ هذا الكتاب سوف يخرج أكثر معرفةً بما جرى في المنطقة العربية منذ الثمانينيات من القرن العشرين، مع إلمام بتفاصيل الدبلوماسية وصنع القرار في سورية في الشأن الخارجي، وسوف يخرج أكثر ثقة بعدالة قضية العرب في صراعهم مع إسرائيل التي كانت تفوّت فرص السلام.
وقبل ذلك، عاد الكاتب إلى الطفولة والصبا فكتب خلفية تاريخية للكتاب متواشجة مع سيرته الشخصية. وأطلعنا من خلالها ليس على جاذبية العروبة ومعناها بالنسبة إلى مثقف شاب في سورية منتصف القرن الماضي فحسب، وإنما أيضاً على الانقلابات العسكرية، والصراعات على السلطة في سورية وداخل حزب البعث.
كما أنّ الفصول التي يتضمنها الكتاب حول علاقة الرئيس حافظ الأسد بأخيه رفعت، والعلاقة مع العراق وصدام حسين، وبعض تفاصيل العلاقة مع ياسر عرفات والتدخل في لبنان وغيرها، لا تقل في أهميتها عن الفصول البالغة الأهمية عن المفاوضات السورية -الإسرائيلية منذ مدريد وحتى فشل لقاء جنيف بين بيل كلينتون والأسد، الذي يورد هذا الكتاب الرواية السورية لتفاصيله لأول مرة. وعلى أي حال، فإنّ الأمور التي تروى هنا لأول مرة أكثر من أن تحصر في هذه المقدمة.
قد يعلّق قارئ بعد الانتهاء من الكتاب أنّ الكتاب مفيد فعلًا، ولكن الكثير من الأمور في حياة سورية الداخلية لم يتم التطرق إليها، ولا سيما ما يتعلق منها بطبيعة النظام وعلاقته بشعبه، وأنّ أمورًا أخرى كثيرة رويت من زاوية نظر محددة. وعلى هذا نجيب: إنّ الراوي يكتب من زاوية عمل وزير خارجية، وإنّ أهم ما يرويه لنا يتعلق بالسياسة الخارجية لبلده، ثم إنّ قيمة العمل تكمن في زاوية نظره. فزاوية النظر هذه هي التي تحمل الأسرار والتفاصيل، وهي أيضًا التي تقيّمها، ليس من منظور الباحث والمؤرخ، بل من منظور الشاهد المثقف الأمين على شهادته، والذي لا يزوّر رؤيته للأمور. فهو يكتب كما رأى الأمور في حينه، ولكنه لا يبخل على القارئ بتعليقات ذكية هنا، وتقييمات تتضمن بعض المراجعة هنا، ومنها مراجعات ذات طابع وجداني.
خذ مثلًا هذه المراجعة التقييمية الشاملة التي وردت في الفصل الأخير من الكتاب “في الطائرة في طريق العودة من جنيف إلى دمشق يوم 27 آذار/مارس، فقد قيّمنا ما حدث بعد فترة صمت ليست قصيرة. كانت الطائرة قد أخذت في ارتفاعها الطبيعي بعد الإقلاع، وأصبحت محركات الطائرة أقل ضجة وجناحاها أكثر استقرارًا. كان جوهر التقييم في مفهوم “الرواية القصيرة” أنّ “اللعبة الكبرى” التي بدأها الإسرائيليون “كدعاة سلام” والأميركيون “كوسطاء نزيهين” قد انتهت وانكشفت. كان لسورية ما يبرر لها اتخاذ السلام خيارًا إستراتيجيًا؛ فالاتحاد السوفييتي انهار منذ مطلع التسعينيات، ولا ظهيرَ مصريًا أو عربيًا منذ معاهدة السلام المصرية -الإسرائيلية، ولا عمقَ إستراتيجيًا مع العراق منذ انهيار الميثاق القومي وما أعقبه من حروب عبثية مع إيران والكويت، ولا أثر يذكر لإعلان دمشق بعد أن ألغي الشق الأمني منه بطلب ملكي. هذا تاريخ حقيقي لا يجوز التلاعب به. وعلى الرغم من كل ذلك، فالمستوطنون الإسرائيليون الذين سرقوا أرض السوريين لن يشعروا بالأمان أبدًا، وهذه أيضًا حقيقة لا يجوز إخفاؤها”.
كان هذا الكتاب كاملًا في أيدينا في نيسان/أبريل 2011. ولكننا قررنا التريث وعدم النشر بسبب الأوضاع في سورية. ولكن المدة طالت. وأخيرًا شعرنا بأنه لا يمكن التأجيل أكثر من ذلك في عملية إصدار الكتاب. فنحن لا ندري ما تخبئ لنا الأيام، ولا يجوز انتظار معرفة ذلك. هذا الكتاب هو كتاب فاروق الشرع، ومن واجبنا ومسؤوليتنا إطلاع الكاتب عليه. ولذلك قررنا النشر بعد استئذان الكاتب.
وها نحن نضع هذا الكتاب الثمين، وهذه الأمانة بين يدي القارئ.
مواد متعلقة: