حلبمقالات

أسامة أبو ارشيد – حلب.. مقاربة “التوحش” الأميركي

ما زال كثيرون حائرين في قراءة موقف إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، من الصراع في سورية، فتارةً تراها تؤكد أنه لا مكان لبشار الأسد في أي عملية انتقال سياسي مستقبلية، وتارة أخرى، تسمع تصريحات مناقضة أن ذهاب الأسد ليس أولوية الآن، وأن الأولوية الحقيقية ينبغي أن تنصب على محاربة “داعش”.

بل إن أوباما الذي أعلن في سبتمبر/ أيلول 2014 عمَّا وصفها بـ”استراتيجية” أميركية لمحاربة “داعش”، بما في ذلك في سورية، وجعل إحدى ركائزها تدريب مقاتلين سوريين معارضين لنظام الأسد وتسليحهم، انتهى الأمر بـ”إستراتيجيته” إلى فشل كبير، ذلك أنه طُلِبَ إلى المقاتلين محاربة “داعش”، في حين تُرِكَتْ ظهورهم مكشوفةً لقوات النظام، دع عنك أن حديث التدريب والتسليح لبضعة آلاف منهم اختزل في بضع عشرات فقط.

أبعد من ذلك، ما زال أوباما يرفض إقامة منطقة آمنة في شمال سورية، وهو المطلب الذي تدعمه بعض الدول الأوروبية، فضلا عن تركيا والسعودية، وهو أيضاً يرفض دعماً تركيا- سعوديا-قطرياً أكبر للثوار على الأرض. أمَّا “تنبؤاته”، أو إن شئت الدقة فقل “تخرّصاته” السياسية عن غرق روسيا وإيران في أوحال سورية فقد انتهت حيث نرى اليوم. فلا المسألة تحوّلت، بالنسبة لروسيا على الأقل، إلى حرب استنزاف، ولا هي عجزت عن تغيير موازين القوى على الأرض، وأنَّى لها أن تعجز في ظل الغياب الأميركي المباشر المتعمّد، وفي ظل “الفيتو” الذي تفرضه إدارته على الحلفاء في تقديم يد العون للثوار.

قد يعيننا ما سبق على فهم الموقف الأميركي، المبهم والمتناقض في آن، من المذبحة التي جرت فصولها الدموية في حلب، قبل الهدنة الهشة. فمن ناحيةٍ، سمعنا من الناطق باسم البيت الأبيض، جوش إيرنيست، مساواةً في الإدانة بحق النظام السوري وفصائل المعارضة المسلحة لما جرى في حلب، وَحَثَّ كليهما “على الالتزام بتعهداتهما السابقة” بوقف القتال، في حين حذّر وزير الخارجية، جون كيري، الأسد من “التداعيات” ما لم يلتزم بوقف إطلاق النار الذي توسّطت فيه الولايات المتحدة وروسيا، ودخل حيز التنفيذ أواخر فبراير/ شباط الماضي. لا يتعدّى الحل من وجهة النظر الأميركية العودة إلى روسيا لإعادة فرض الهدنة على النظام والمعارضة. أما “التداعيات” التي حذّر كيري النظام منها فلا تعني شيئاً، ولن يكون مصيرها أفضل من تهديد أوباما باستخدام القوة العسكرية، في حال ما استخدم النظام الأسلحة الكيماوية، وكلنا يعرف كيف انتهى فصل المهزلة ذاك في أغسطس/ آب 2013.

المشكلة، هنا، أن روسيا متورطة في سفك دماء السوريين، ولم يتوقف طيرانها الحربي يوماً عن دَكِّ مواقع المعارضة السورية، والمدنيين القريبين منها، بذريعة أنها تتبع “داعش” و”جبهة النصرة” المستثناتين من الهدنة. ليس هذا اتهاماً توجهه المعارضة السورية، بل هي تأكيدات أميركية-أوروبية. الأدهى أن الولايات المتحدة نفسها سبق وأن أعلنت، قبل أسابيع، أنه منذ أن دخلت الهدنة حيز التنفيذ في فبراير/ شباط الفائت، فإنه قد سجل أكثر من ألفي خرق لها من الروس والنظام وحلفائهما، فضلا عن أن النظام لم يسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى السكان المحاصرين، حسب بنود الاتفاق. بمعنى آخر، لم تدخل هذه الهدنة، أو “وقف الأعمال العدائية”، حسب المفردات التي جاءت في الاتفاق الأميركي-الروسي الرسمي حولها، يوماً حيز التنفيذ، اللهم إلا إذا كان المقصود هنا هدنةً من جانب واحد، هو المعارضة السورية.

قُدّمت تفسيرات كثيرة لـ “تردّد” أوباما و”غموض” موقف إدارته في سورية، أهمها التي حدّدها هو، مثل أنه لا يريد أن يعيد الولايات المتحدة إلى الغرق في “أوحال” الشرق الأوسط، لكن هذه الحجة ينسفها إعادة تدخله في العراق براً وجواً، وفي سورية، جواً، وإلى حد ما براً. أو ذريعة أنه لا يوجد شركاء على الأرض السورية يمكن الاعتماد عليهم، على أساس أن المقاتلين السوريين، حسب أوباما، هم “مجموعة من الأطباء والمزارعين والصيادلة السابقين وما إلى ذلك”، وبالتالي، فإن التعويل عليهم، لو توفر لهم التدريب والتسليح الفعال، في هزيمة الأسد “أمر مبالغ فيه وطوباوي”، غير أن أوباما لا يشرح هنا الاعتماد على “مقاتلين هواة” من الأكراد السوريين، ولماذا يتم تسليحهم، على الرغم من أن ذلك يثير غضب الحليف التركي وحنقه، فضلاً عن تحالفهم مع النظام والروس! أما زعمه أنه لا يريد أن يكون رئيس حرب، كما كان سلفه جورج بوش، وأنه يريد أن يوجه إمكانات الولايات المتحدة لبناء الداخل الأميركي، فإن إعلانه حرباً عالمية على “داعش” يدحضه، على الرغم من أنه هو نفسه من أعلن أن “داعش” لا تمثل “تهديداً وجودياً للولايات المتحدة”.
أريد أن أقدّم هنا تفسيراً للسلوك الأميركي قد يبدو مبالغاً فيه، غير أني لا أكاد أجد غيره.

باختصار، يتقمص أوباما اليوم أحد الوجوه المتوحشة للسياسة الخارجية الأميركية، وذلك كما رأينا في تسعينيات القرن الماضي من صمتٍ أميركي، سنوات، على المذابح المروّعة التي وقعت في رواندا وبوروندي وفي البوسنة والهرسك، وذهب ضحيتها عشرات آلاف البشر. لقد لمّح أوباما نفسه إلى ذلك في خطابيه اللذين ألقاهما أمام الجمعية العامة في سبتمبر/ أيلول 2013 و2014، عندما حدّد وبكل وضوح في خطاب 2014 أن “الولايات المتحدة ستستخدم القوة العسكرية، أحادياً، إن دعت الضرورة لذلك. وذلك في حال تطلبت مصالحنا الأساسية ذلك، عندما يكون هناك خطر محدق بشعبنا، وعندما يهدّد اقتصادنا، أو عندما يكون أمننا وأمن حلفائنا في خطر”.

أما حين لا تتطلب “المصالح الأساسية” الأميركية عملاً عسكرياً مباشراً فإن “معيار استخدام القوة العسكرية ينبغي أن يكون أعلى”. ولا يتردّد أوباما في التلميح في خطاب 2013، إلى أن الجرائم ضد الإنسانية، كالتي تقع في سورية اليوم، تدخل ضمن سياق “المصالح غير الأساسية” للولايات المتحدة. وبالتالي، فإنها لا تستلزم تدخلاً عسكرياً أميركياً. والبديل الذي يقدمه أوباما لاستخدام القوة، في هذا السياق، يتمثل في أنه “لا ينبغي أن نذهب وحدنا. بل ينبغي أن نعبئ حلفاءنا وشركاءنا لاتخاذ إجراء مشترك. علينا توسيع أدواتنا، لتشمل الدبلوماسية والتنمية؛ العقوبات والعزلة؛ الإحالة للقانون الدولي، وفقط إذا كان من الضروري والفعال، العمل العسكري متعدّد الأطراف. علينا أن نفعل ذلك، لأن احتمالات نجاح العمل الجماعي في مثل هذه الظروف أكبر، وأقدر على الاستمرار، واحتمالات وقوع الأخطاء المكلفة أقل”.

المشكلة أن أوباما يذهب في “وحشية” مقاربته أبعد من محدداته، فالشعب السوري يذبح على يد نظامه والإيرانيين والروس وحلفائهم، ولا تجد منه جهداً نحو “إجراء مشترك”، يتضمن أدوات الرد التي حدّدها، بل تجده يفاوض المجرمين الروس على جرائمهم، ويمنع حلفاءه من مدِّ يد العون للشعب السوري ومقاتليه، وكأن لسان حاله يقول: “فليذهب السوريون إلى الجحيم.. المهم المصالح الأميركية فحسب”.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى