هنالك حالة من التعقيد تحيط بداعش (دولة الإسلام في العراق والشام) تحول دون إيجاد مقاربة واحدة لها تنفي ما عداها، بل أقول بأن حالة التعقيد لا تحيط بها فحسب، بل هي أصل هذا التنظيم المتأسس على عدة تناقضات سأحاول بعجالة عرضها.
إن أردنا الحديث من ناحية سياسية، نقول إن المستفيد الأكبر، بفارق مريع عن كل ما عداه، من ظهور «داعش» في سوريا، ومن جميع ممارساتها الإجرامية والبربرية هو النظام السوري، محلياً وعربياً ودولياً. وصار التنظيم، الذي مهّد لظهوره الخطاب الإعلامي للنظام في أيام الثورة الأولى بالحديث عن جماعات متطرّفة مسلّحة في وقت اتسمت فيه الثورة بالسلمية والمدنية والجماهيرية، صار التنظيم لاحقاً المبرر الدائم لجرائم الحرب التي ارتكبها النظام، وصارت ممارسات هذا التنظيم الإرهابية تبرّر في إعلام النظام ممارسات هذا النظام الإرهابية، أي أنه كان حاجة موضوعية لهذا النظام وكان حجّته.
إن أردنا الحديث من ناحية أمنية، فقادة «داعش» وعناصره الأوائل هم من خرجوا من سجون النظام في عفو رئاسي منذ الأيام الأولى للثورة، حيث جسّدت هذه العناصر مبتغى النظام في تأسيس الجماعات المتطرفة التي لم نعرف كيف أتت بالسلاح فجأة في وقت كانت الحدود السورية من شمالها لجنوبها بيد النظام، خرجت القيادات هذه وبعد فترة بدأت النشرات الإخبارية والصحف تتحدث عن «جبهة النصرة» ولاحقاً «داعش».
إن أردنا الحديث في الحرب، طيران النظام السوري لا يترك حارة وبيتاً وجامعاً في مناطق ثارت عليه، إلا وقصفه بالبراميل والسكود وطائرات الميغ، ويستثني من ذلك مقرات «داعش» الآمنة في الرقة التي للصدفة الإلهية تسلم دائماً من قصف النظام شبه اليومي للمدينة، بخلاف المباني والمدارس المأهولة بالمدنيين، والحال ذاته في مجمل شمال وشرق سوريا، حيث يتمركز هذا التنظيم الذي لم نسمع أنه اشتبك في أي جبهة مع جيش النظام أو إحدى ميليشياته الطائفية.
هل أريد أن أقول من كل هذا أن «داعش» صنيعة النظام؟ لا أعرف، رغم انتشار عدة وثائق أمنية تدعم فرضية أن التنظيم صنيعة النظام من نواته إلى فروعه، وعلى كل حال، كُتب وقيل الكثير عن هذه الفرضية، إلا أني إضافة لترجيح صحّتها بنسبة كبيرة، أرى في انتشار (لا تأسيس وتسليح) داعش المريع في سوريا أسباباً قهرية.
لا أتمنى على الساروت شيئاً
هنالك في سوريا نشطاء ميدانيون، هم صلب الثورة من أيامها الأولى إلى اليوم، بخلاف النجوم الإعلاميين الطارئين الفطريين. من هؤلاء النشطاء والثوار ابن مدينة حمص عبد الباسط الساروت الذي لم نعرفه معارضاً حاضراً بدوام شبه رسمي على هذه القنوات، بل عرفناه من خلال ما وصلنا عبر «يوتيوب» من تلك المدينة المعروفة بعاصمة الثورة. عبد الباسط هو الأشبه بهذه الثورة، بمراحلها وتعثّراتها، بخلاف أصحاب ربطات العنق المتحدثين من شتى عواصم العالم.
ظهرالساروت مؤخراً في فيديو انتشر على «يوتيوب» يدعو فيه كلا من «داعش» و «جبهة النصرة» إلى الثأر لأهالي حمص، ولمّح تحديداً إلى تفخيخ السيارات، وهذه خطيئة فظيعة سبّبها اليأس. كان ذلك إثر خروجه وثوار مسلحين آخرين من المدينة القديمة في حمص بعد حصار جيش النظام لهم لما يقارب السنة، وقالها صراحة حينها إنهم جوعى وما عادوا يستطيعون التحمل أكثر، وأنهم سيذهبون ليأكلوا لقمة ويعودون للقتال من حيث يستطيعون.
من المرجح أن الساروت الآن منضوٍ تحت رايات إما «داعش» أو «جبهة النصرة»، وذلك بعد حصاره ورفاقه في حمص، في وقت تركهم العالم يواجهون جيش النظام والميليشيات الشيعية المنضوية تحت راية الخامنئي وحرسه الثوري بتسليح فائض، لم يُزوّد الساروت ورفاقه لا بالسلاح ولا بما يسدوا به رمقهم ويبقيهم واقفين على أرجلهم، فخرجوا ولم يجدوا غير التنظيمات السنية المتطرفة كندّ ونقيض للتنظيمات الشيعية المتطرفة.
هل ما أقوله تبريرا لتقرّب الساروت من هذه التنظيمات؟ قطعاً لا، هو تفسير يحاول مقاربة الموضوع مع حذر بألا أقدّم دروساً للساروت، لا أنا ولا غيري يستطيع.
لن أستطيع أن أتمنى على الساروت أن لا ينضم لتنظيمات سنية متطرفة هي أشبه بالتطرف المقابل لها، وأنا أكتب من خلف شاشة الكمبيوتر، ولن أتفهّم نجوم المعارضة التلفزيونيين ممن قد ينتقدوا التوجه الجديد للساروت وهم متنقلون بين مطارات وفنادق وعواصم العالم، أخصّ منهم المعارضات الرسمية من «الائتلاف الوطني» إلى «هيئة التنسيق».
لا يستطيع أحد انتقاد توجّه الساروت ورفاقه الأخير، وهو أولاً لم يكن محاصَراً معهم، وهو ثانياً لم يقاتل معهم على ما يزيد عن السنتين وأصيب، وهو ثالثاً لم ينزل متظاهراً معهم في السنة الأولى للثورة.
مراحل الثورة من خلال الساروت
هنا آتي إلى مراحل التحول على مسيرة الساروت المتماثلة مع مراحل الثورة، لم يكن عبد الباسط معنياً بالسياسة قبل الثورة، كان كآخرين من الشباب السوريين منشغلاً بما عدا السياسة وهي الحال العامة ضمن نظام حكم قمعي واستبدادي، في الأيام الأولى للثورة تظاهر سلمياً كالجميع، قاد مظاهرات وألقى هتافات وغنّى للثورة ولسوريا وشهدائها ونبذ الطائفية. استمر النظام في قمعه بل وصعّده ليصير حرباً على الشعب تُستخدم فيه الأسلحة الثقيلة، مع الأيام اضطر الكثيرون من بينهم الساروت إلى تسليح أنفسهم لحماية أحيائهم، تزامن ذلك مع انشقاقات فردية لأعضاء في الجيش السوري، استمر القتال بين المجموعات الأولى من الجيش الحر وبين النظام وشبيحته، واستمرّ نبذ الطائفية.
دخلت الجماعات المتطرفة السنية والشيعية على الخط وصار للثورة وحرب النظام عليها وجه طائفي هو أقصى ما كان يتمناه النظام إلى لحظتها ليمضي في خطابه الإعلامي الذي أسس له خطوة خطوة.
ازدادت حرب النظام على الشعب والمدنيين وحشية، ازدادت الجماعات المتطرفة السنية قوة للاستقطاب الطائفي الحاصل بفضل حرب النظام الواضحة على مناطق الأغلبية السنية في سوريا، إضافة إلى استقدامه المزيد من التنظيمات المتطرفة الشيعية التي أظهرت مدى بربريتها وهمجيتها في تقتيل السوريين والتمثيل بجثثهم، لا ينافسها في ذلك غير شبيحة النظام، وبمنافسة حادة كذلك من التنظيمات السنية المتطرفة. اشتكى الساروت ورفاقه في حمص بأنهم لم يحصلوا على أي مساعدات من المعارضة الرسمية، «الائتلاف»، وأنهم بالكاد يتدبّرون أمرهم في قتال النظام وحلفائه.
أخيراً، من سيجرؤ على لوم الساروت ورفاقه للجوئهم إلى جماعات سنية مسلّحة بشكل مريب تبني دولتها الإسلامية شمال وشرق سوريا، والتي ستقاتل النظام إن حاول الأخير الاقتراب منها (لم يقترب منها حتى اللحظة لا جواً ولا براً)؟ الساروت هنا مثال لمنطقة محدّدة في حمص، قسْ عليه في باقي الأرض السورية.
داعش وما يستطيعه الإعلام
قيل خلال الأيام الأخيرة وهجمة «داعش» الموسّعة في العراق بأنها فقاعة إعلامية، أن حجمها تلفزيونياً يفوق كثيراً حجمها على الأرض، لكني لا أرجّح ذلك أبداً، يمكن للتلفزيون أن يصنع نجوماً أفرادا كمن تحدّثت عنهم، هم فقاعة سيزول أثرها إن استبدلها التلفزيون بغيرها يمكن نفخها حسب حاجة هذه القناة أو تلك، وخطابها السياسي والطائفي، وهذه ميزة جميع القنوات الإخبارية العربية دون استثناء، لجميعها خطاب سياسي يتبع للدولة الممولة، وخطاب طائفي يتبع للخطاب السياسي ذاته.
أما «داعش» فلديها العديد من الأسباب للانتشار (أحكي عن سوريا)، أهمها الفشل الذريع للمعارضة «المدنية» في الخارج، الائتلاف وما شابه، في الدعم الدبلوماسي واللوجستي والتسليحي لمجموعات الأهالي من السوريين المدافعين عن أحيائهم ومجمل وطنهم، فما كان من كثير منهم إلا اللجوء إلى الجهة الأشد تسليحاً والحاملة لخطاب طائفي هو النقيض ظاهرياً لخطاب النظام الطائفي، أقول ظاهرياً لأن العلمانية هي النقيض الحقيقي لكلا التطرفين المتماثلين من الطائفتين الكريمتين.
ضمن الصيغة الطائفية التي حاول الخطاب الإعلامي للنظام تكريسه، ستقوى «داعش» وستشدّ إلى طرفها وإلى تطرّفها المزيد من الشباب الذين بدأوا الثورة سلمياً ومدنياً. ليس هذا صنيعة الإعلام، لا إعلام النظام (أو إعلام إيران كـ»الميادين» ولا الإعلام الخليجي، هذه هي الحرب، وهذا هو المجتمع، وهذه هي استقطابات التطرّفات المتقابلة، وهذه هي المعادلة التي استطاع النظام أن يجرّ أطرافاً محلية وإقليمية ودولية إليها. الإعلام في هذه الحالة أقصى ما يستطيعه هو الكذب والتحريض والتأجيج.
القدس العربي – وطن اف ام