يضرب المثل على القراءة المبتورة بالآية الكريمة (ولا تقربوا الصلاة) لتظهر بأنها نهي عن الصلاة مع أن ذلك يقترن مع حالة السكر، وربما كان الإعلام العربي بحاجة لأن يستحضر هذه الأمثولة وهو يتابع التصريحات الأردنية السورية المتبادلة والتي أوحت باضطراب العلاقات بين الجارتين (الشقيقتين) واتجاهها نحو التسخين وربما الانفجار.
كانت البداية مع تصريحات محمد المومني الناطق باسم الحكومة الأردنية التي تضمنت التلويح بعمل أردني في العمق السوري، وتناست المانشيتات الصحافية بأن هذه المقولة أتبعها شرط الاضطرار لحماية الحدود الأردنية، وأتى الرد سريعاً من وزير الخارجية السوري وليد المعلم الذي صرح بأنه سيتم التعامل مع القوات الأردنية على أنها معادية في حال تخطيها الحدود، وتجاهلت وسائل الإعلام في الأخبار العاجلة المحدد السوري المتمثل في التنسيق مع النظام.
بدت الأمور لوهلة وكأن البلدين يرسلان عشرات الآلاف إلى الخنادق وينصبان المدافع ويوجهان الصواريخ، وفي الحقيقة، فإن الطرفين يتبادلان الرسائل التي تستحق القراءة لارتباطها بالمرحلة المقبلة والتطورات المحتملة في الجنوب السوري، دون أن يعني ذلك مطلقاً أن الأمر يتجه للتصعيد، ودون أن تجعل هذه الرسائل أحداً يستبعد المفاجآت أيضاً.
الأردن أخذ يضيق ذرعاً بتواصل الأوضاع في الجنوب بالترنح دون وجود أفق للحسم، ويبدو أن تركيز النظام السوري لم يعد على تأمين جبهته الجنوبية في ظل وجود تطورات أخرى شمالاً تتواصل مع تداخلات تركية أمريكية حول القوات الكردية ودورها في الأسابيع المقبلة، ومن صميم الحقوق الأردنية أن تتم الإشارة بوضوح ودون أي لبس لأولوية حماية الحدود الأردنية خاصة أن الجنوب في وضعه الراهن يمكن أن يمثل الملاذ للعصابات المنتمية لتنظيم داعش، بينما ما قدمه الوزير السوري في المقابل لا يعتبر ممانعة للتدخل الأردني في حال وجود الأسباب الداعية له، ولكنه يعرض على الأردن صراحةً التنسيق مع النظام السوري، وهو الأمر الذي تهتم دمشق في معرفة القابلية الأردنية بخصوصه.
العلاقة الأردنية السورية متشعبة التفاصيل ومعقدة للغاية، وإذا كانت تركيا مثلاً تعتبر سوريا، أو تطمح لجعلها، حديقة خلفية لمطامعها الإقليمية، فإن الأردن من الناحية الوجودية يعتبر نفسه امتداداً لسوريا الطبيعية وحتى شريكاً في تحديد شرعية الطموحات القومية والإقليمية الجوهرية في كينونة النظام السوري، وعلى الرغم من أن فوضى سايكس – بيكو وما أتبعها من تغيرات هيكلية على بنية المجتمعين السوري والأردني جعلت من المتعذر اليوم الحديث عن مدى إمكانية التئام المجتمعين، فإنه يجب الالتفات الى أن الشعبين السوري والأردني لا يمكن أن يتقبلا فكرة الحرب بين البلدين مهما بلغت التشوهات الجذرية في بنيتهما التي كانت أصلاً بنية واحدة قبل قرن من الزمن.
يعلم النظام السوري أن بلاده أصبحت أرضاً لصراع كوني تتداخل فيه العديد من الدول بصورة مباشرة وغير مباشرة، وأن تدخل الأردن لن يغير شيئاً على خريطة الأوضاع في سوريا، فبضعة كيلومترات في الجنوب السوري لا تشكل أي تغيير استراتيجي على الأرض، وأن الحديث عن حزام أردني في الجنوب لا يمكنه أن يصرف النظر عن حزام تركي أو كردي في الشمال، وفي الوقت نفسه تعلم عمان بأن الأردنيين بشكل عام يرفضون أي عمل أمريكي أو بريطاني ينطلق من أراضيهم، ولذلك فإن المخرج المعقول أمام الأردن هو في اتخاذ الموقف الدفاعي على أرضية الجاهزية الكاملة للاشتباك مع أي تهديد لحدوده، أو التنسيق مع النظام السوري من خلال طرف ثالث وهو في هذه الحالة لا يخرج عن الدب الروسي الذي يتململ في موسكو ويشعر بأن سوريا بدأت تمثل ورطة دون أن تعطيه ملامح الفرصة المرتقبة.
البلدان لا يرغبان ولا يسعيان للوصول إلى حالة التحدي، لا أن يتحديا بعضهما ولا أن يطرحا أي نوع من التحدي يمكن أن يجلب للأردن نصيباً جديداً من الأزمة السورية يضاف إلى ما لديه من مشكلات اللاجئين، وعلى الرغم من الاختلافات والتباينات الكبيرة يعترفان بوجود عدو مشترك وهو التنظيمات الإرهابية التي أيقظت نوعاً جديداً من التخوفات الأردنية بعد حادثة قلعة الكرك. لماذا يستمع السوريون والأردنيون لتصريحات المومني التي لم تقدم جديداً في الوقت الذي يتناول قائد الجيش شخصياً الشأن السوري بصورة مباشرة وخارج نطاق التحفظ التقليدي الذي اصطبغت به قيادة الجيش الأردني تاريخياً، فرئيس هيئة الأركان المشتركة الفريق الركن محمود الفريحات في لقائه مع «بي بي سي» قبل فترة ليست بالبعيدة أوضح أن سبب استمرار غلق المعابر بين البلدين يرجع إلى أن من يسيطر على الجانب الاخر تنظيمات ارهابية لا يمكن التعامل معها وليست قوات من الجيش السوري، وذلك يعني ضمنياً بأن الأردن من مصلحته الاستراتيجية أن يتمكن الجيش السوري والنظام من فرض سيطرتهما على الجنوب، فما الذي يمكن أن تنتظره عمان بعد ذلك؟
وعلاوة على ذلك، فإن التساؤل يمكن أن يثور عن سبب ردة الفعل السورية التي اصطبغت بالمبالغة للوهلة الأولى على تصريحات أحد الوزراء الأردنيين بينما ما زالت تصريحات الملك عبد الله الثاني قبل نحو الأسبوعين بأن الأردن مستمر في سياسته الدفاعية في العمق السوري دون الحاجة لدور للجيش الأردني داخل سوريا، وتأكيده على الحل السياسي وما يتطلبه ذلك من تعاون روسي – أمريكي في جميع الملفات.
بالتأمل في ردة الفعل السورية خارج أمثولة (ولا تقربوا الصلاة) فإن الرسالة بشكل عام تصب في كونها دعوة للتنسيق مباشرة مع النظام دون الحاجة للوسطاء وهو الأمر الذي ينقل التعاون الأمني القائم، والذي تحدث عنه الفريق فريحات، لتعاون عسكري محتمل سيغير من المشهد في الجنوب وربما يمكن السوريين من التفرغ للتعقيدات المتوقعة على الجبهة الشمالية.
الجيش السوري بوضعه الراهن لا يمكنه أن يدخل في مواجهة مع جيش نظامي على درجة عالية من التدريب، وفي المقابل لن يغامر الجيش الأردني بأن يتقدم ليصبح طرفاً في حرب للعصابات وأقصى أهدافه سيكون بالفعل تأمين حدوده، أما الحروب الكلامية والإعلامية فليست بجديدة، فالجميع يعلم بأن النظام السوري يجيد لعبة تغيير المسار والتلاعب بالألفاظ والمواقف، وعمان تتصف دائماً بتحفظها والتزامها بتقاليد سياسية هادئة مع وجود مسافة بين القرارات الكبرى التي تبقى بين الملك وأجهزته الأمنية والقوى الفاعلة الأخرى في الأردن من جهة، وبين الحكومة ذات الدور التنفيذي من جهة أخرى.
المصدر : القدس العربي