ريف دمشق

عبد الناصر العايد – مناطق خفض التصعيد السورية حبر على خرائط

على رغم تحوير التسمية، فإن مناطق خفض التصعيد التي طرحتها موسكو في مؤتمر آستانة هي ذاتها المناطق الآمنة التي سبق أن تحدث عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. الأميركيون قابلوا هذا الخطوة الروسية المواربة بخطوة مواربة أيضاً من طرفهم، وأرسلوا مسؤولاً رفيع المستوى في الخارجية راقب المؤتمر، لكنه حين أفصح عن رأيه قال نقطة واحدة ذات أهمية، هي أنهم قلقون من دور إيراني مستقبلي في سورية، تشرعنه هذه الاتفاقية.

الأمور بسيطة ومعقدة في سورية في آن معاً، لدى الأميركيين جدول عمل سوري من ثلاث نقاط، هي القضاء على «داعش» و «القاعدة»، وإعادة إيران إلى داخل حدودها، وإزاحة بشار الأسد، لوضع القضية السورية على سكة الحل.

أما الروس، فيتعاملون، بحكم محدودية إمكاناتهم، مع الشأن السوري وفق الحالة، يتقدمون حيث يتاح لهم، ويحجمون عند أول إنذار، ويراعون مصالح حلفائهم وشركائهم الذين لولاهم لما استطاعوا أن يتواجدوا في الشرق الأوسط.

لا يستطيعون أن يضربوا صفحاً عن التعاون مع واشنطن، فمن دونه قد يغرقون في أفغانستان أخرى، وعرضوا خدماتهم بخاصة في النقطة الأولى، أي محاربة «داعش» و «النصرة» مرات عدة، لكنهم اصطدموا بعقبة إيران، ففي ذهن ترامب وإدارته أن وجود المتطرفين السنّة مرتبط باستفحال الميليشيات الشيعية المرتبطة بالولي الفقيه، وأنه يجب إجلاؤها عن الأراضي السورية، وهو إحراج أول للروس، فالحرس الثوري الإيراني وتلك الميليشيات هي من تمسك الأرض تحت طائرات بوتين، وربما كانت خزينة خامنئي هي من تمول تدخله العسكري المكلف، وتستطيع إيران أن تتمرد على الروس في سورية، لكن الروس لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك. ناهيك عن أن إيران حليف استراتيجي لروسيا في مسائل عدة ولا يمكن التفريط بها ببساطة، وربما تم تفصيل اتفاق المناطق الآمنة لحل هذه الإشكالية، بإيجاد صيغة شرعية للوجود الإيراني في سورية، ولعل هذا أيضاً سر مسارعة نظام الأسد لقبول الاتفاقية، غلى رغم رفضه بصوت عالٍ لهذه الفكرة طوال السنوات الماضية.

في النقطة الثالثة أي إزاحة بشار الأسد، فإن الروس أيضاً يجدون صعوبة شديدة في إبداء أي نوع من المرونة إزاءها، فالأسد هو من جلبهم بتعاقد رسمي ومنحهم أجزاء استراتيجية من سورية، هو الغطاء الشرعي الوحيد للتواجد الروسي في البلاد، بخاصة في ظل الخصاء التاريخي المتعمد في عقد القيادة الأسدية، التي تجعل من شبه المستحيل العثور على شخصية عسكرية أو مدنية قادرة على الحلول محل بشار الأسد فيما لو قررت روسيا استبداله بآخر من داخل النظام، ناهيك عن أن ذلك سيمسّ مصالح إيران، التي تعتبر أيضاً أن بقاء بشار الأسد هو ضمانة نفوذها في سورية، وفي غيابه ليس لديها سوى سلاح الميليشيات الطائفية، الذي بات معرضاً للذهاب أدراج الرياح مع الإصرار الأميركي والعربي والإسرائيلي على تفكيكه.

الاختبار الهام للديبلوماسية الروسية التي أثبتت رسوخها وذكاءها في السنوات المنصرمة، هو في مؤتمر جنيف السوري المقبل، إذاً ينتظر الأميركيون، بعد أن سايروا الروس في محادثات آستانة العسكرية، أن يثبت هؤلاء أن لديهم طرحاً جدياً في ما يخص عملية التفاوض السياسي، وأن لديهم إجابات وتصورات واضحة حول مراحل ومآلات العملية السياسية، التي يفترض أن تنتهي بخروج القوات العسكرية الإيرانية من سورية، وخروج عائلة الأسد من السلطة، وهذا يقتضي أن تمارس روسيا نفوذها على هذين الطرفين لإرغامهما على ذلك، وهو أمر إذا حصل فإن روسيا ستكافأ عليه غربياً وعربياً.

أما إن لم تبد موسكو استجابة ذات صدقية، وتقبل الصفقة، فإن واشنطن لديها فائض من الأوراق للعبها، من دعم فصائل المعارضة العسكرية في شكل جدي لدحر المتطرفين والنظام وميليشيات إيران في آن معاً، وهز صورة روسيا واستنزافها عسكرياً وسياسياً، إلى استخدام ملف انتهاكات قوات الأسد وحشد حلف دولي ذي شرعية أممية وحقوقية ضده، والذهاب إلى فرض مناطق آمنة بالقوة بعيداً من نفوذ موسكو، إلى توجيه ضربة قاصمة لإيران عبر إسرائيل في معقل ذراعها «حزب الله» في لبنان، إلى توجيه ضربات أميركية مباشرة لنظام الأسد، وثمة أطراف في الإقليم جاهزة لدفع الكلفة مهما غلت.

إذا وصلت التطورات إلى هذه النقطة فإن الأمور التي كانت تبدو شديدة البساطة ستنتقل إلى مستوى التعقيد الكامل الذي لا يمكن حسابه أو التكهن بنتائجه.

عجلة السياسة الخارجية الترامبية ستبدأ بالدوران قريباً، عندما تكتمل الاستراتيجيات والخطط التي طلبها حول مختلف القضايا، وهو حين سيتوجه للشرق الأوسط أولاً، والى السعودية وإسرائيل تحديداً، فإنه يكشف عن محور سياسته الخارجية وأولوياتها، وهي ايران. وبالنسبة الى الشأن السوري فقد بات أمر رحيل بشار الأسد محسوماً قبل جميع هذه الترتيبات، بفضل رعونة بشار الأسد واستخدامه السلاح الكيماوي مرة أخرى، فالصواريخ الأميركية التي ضربت مطار الشعيرات، تشبه ما يصطلح عليه في العلوم العسكرية بالطلقات التحذيرية، ومعناها أن هذا المكان هدف لهجوم مدمر قادم، وعلى من يريد تجنب الأذى أن يبتعد منه.

واستناداً إلى وجهة النظر السابقة، فإن مناطق خفض التصعيد التي تم تحديدها في آستانة، ما هي إلا حبر على خرائط، ولن تؤدي أو تنتج أي شيء.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى