“حمص في حياتي هي المبتدأ والمنتهى”؛ وفي حمص رحل اليوم المفكر السوري الطيب تيزيني (1934-2019)، قبل أن يشهد استعادة المدينة لذاتها وحريتها، بعد سنوات الحرب التي أجهزت عليها.
في منزل كان يلقب بالـ”قوناق” أي المضافة بالتركية، تربى تيزيني لعائلة تؤمن بالثقافة وحرية الفكر إلى جانب تدينها العام، كان منزل والده مصطفى في حي باب الدريب صالوناً ثقافياً يرتاده المفكرون والشيوخ والخوارنة يتناقشون ويتحدثون أمام الفتى الذي التقى في سنواته الأولى بعالم من تعددية الأفكار والفلسفات، تلك الحالة التي يقول إنها علمته التواضع.
يقول “في هذا الجو تعلمت التواضع وبعد التواضع عرفت أن بعض الأفكار التي نأخذ بها ليست وحيدة، فهناك عالم آخر من الأفكار، وهذا ما جعله يتواضع كثيراً في أفكاره وعلى هذا النحو مشى ووصل إلى محطات كثيرة، ولم يتوقف وما يزال على هذا الطريق”.
كان لتيزيني في بداياته تجربة حزبية ذات عمر قصير، علق عليها في إحدى مقابلاته قائلاً “في الحقيقة هنالك بعض الجذور التي تشدني إلى السياسة فكراً وممارسة فلقد أسهمت في بعض الأحزاب اليسارية التي نشأت في سوريا لفترة زمنية، كنت بعدها أعود إلى العمل الفكري خصوصاً بصيغة الفكر السياسي، لذلك فالتجارب التي عشتها في أحزاب سياسية معينة كانت تقدم لي تجربة عميقة سعيت وأسعى إلى التنظير لها في إطار الفكر السياسي العربي”.
توقفت تجربة تيزيني الحزبية مع مغادرته حمص إلى تركيا لمتابعة دراسته، ومنها إلى بريطانيا ثم إلى ألمانيا، حيث تابع دراسته في الفلسـفة وحصل على الدكتوراه فيها عام 1967 ثم عاد إلى سورية حيث عمل أستاذاً في الفلسفة في جامعة دمشق. في عام 2004 أسس الراحل “سواسية” وهي منظمة سورية لحقوق الإنسان، وتعرض إلى الاعتقال بسببها عدة مرات.
وقف تيزيني مع الثورة السورية، وطالب بشار الأسد منذ بدايتها بالتنحي، وتحدث في أكثر من منبر عن فساد النظام وعن الدولة الأمنية التي ابتعلت المجتمعات العربية وسورية بشكل خاص، هو الذي كان قد استقرأ في عام 2000 حدوث انفجار طائفي في سورية، وقال وقتها إن حدث ذلك فهذا لا يعني أن الشعب السوري طائفي، بل إن ثمة مبررات وممارسات ستقود إلى لحظة انفجار من هذا النوع.
في 2017، وصف تيزيتي سورية بأنها “ساحة مبتذلة للعالم. الكل يسعى إلى تحصيل موقع له فيها، وهي تعيش اليوم تمزقاً هائلاً. حدث ما حدث، ولن يمرّ بسهولة. بعضهم يريد أن يبقى خمسين سنة، وآخر 25 سنة، وثالث يريد أن يبقى دائماً، فالخلاف صار حول فترات البقاء والتملك في سورية، وهذا ينذر بأن سورية قد تمزقت، لكن هذا لن يحدث. سورية في لحظة واحدة يمكن اكتشافها متآخية حتى الثمالة، بحيث لا يستطيع هؤلاء الأغراب أن يأخذوا ما يأخذون. ولذلك نطمئن رغم أنّ الأمر سيكلف كثيراً، ونقول: ليكن، إن سوريا تساوي تاريخاً بأكمله”.
تيزيني اعتبر أن ما شهده العالم من دموية مرده أننا نعيش “في مرحلة موت الإنسان، أي في مرحلة العولمة التقنية، وداعش وليدة الثورة التقنية والعولمة، وفي الوقت نفسه هي عدوة للغرب الذي أنتج العولمة التقنية، فالعولمة هي الشيطان الجديد الذي يبسط قبضته على العالم كله، وداعش تعتقد أنها مكلفة بالقضاء على هذا الشيطان. وفي النتيجة، ها نحن نعيش اليوم في ظل المرحلة التي أوصلنا الغرب إليها”.
كان أول كتاب للمفكر الراحل باللغة الألمانية وحمل عنوان “تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة” (1971) ثم أصدر مؤلفاته العربية ومن أبرزها “حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث: الوطن العربي نموذجاً” (1971)، و”روجيه غارودي بعد الصمت” (1973)، و”من التراث إلى الثورة – حول نظرية مقترحة في التراث العربي” (1976).
نشر تيزيني أيضاً “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة”؛ وهو كتاب من 12 جزءاً وضعه عام 1982، و”في السجال الفكري الراهن: حول بعض قضايا التراث العربي منهجا وتطبيقا” (1989)، و”من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية” (1996)، و”بيان في النهضة والتنوير العربي” (2005).
مكث تيزيني في الفترة الأخيرة في حمص لا يغادرها، مقرراً أن يكتب سيرته الذاتية، والتي صرح في إحدى مقابلاته “حين تنتهي، أكون قد انتهيت أنا”، لافتاً إله أنه بات ينسى الكثير من الأسماء والأماكن في الفترة الأخيرة.
وفي حوار له مع “ضفة ثالثة” نشر في 2017، صرّح تيزيني “بعد كل الذي حدث في سورية وفي غيرها، أعلن أن كل ما كتبته في حياتي أصبح ملغى وفي حاجة إلى إعادة نظر. وقد انتهيت في رحلتي الفكرية إلى الإيمان بوحدة العالم بما في ذلك وحدة الأديان كلها… الخطاب الديني المشتعل حاليًا والذي تشعله مجموعات زائفة وأخرى صالحة، لكنها لم تمسك بالحقيقة تمامًا. هؤلاء يجب العودة إليهم ومحاولة تحريرهم من الزيف الذي وقعوا فيه كي نعمم السلام الحقيقي في العالم، وفي كل وطن منه، وأخص بالذكر سورية الجريحة”.
المصدر: العربي الجديد