لفضّ كل سوء فهم محتمل، ودرء كل اتهامٍ مسبق الصنع، يميل الكتّاب والمثقفون، من ذوي الخلفيات الفكرية المستنيرة، إلى الحذر بشدة من الوقوع في براثن الخطاب الطائفي، والابتعاد ما أمكنهم عن بواطن الشبهة، وذلك بعدم تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، ورفض الخوض في مستنقعات الظواهر الاجتماعية المعيبة، خصوصاً وأن من شأن المقاربات الجارحة لوجدان العامة من الناس أن تزيد الوحل بللاً، ولا تسدي معروفاً إلى أيٍّ من ضحايا مثل هذا الخطاب المترع بالضحالة والتفاهة.
لكن السؤال المؤرّق للبال، والمثير للحفيظة في أغلب الأحيان، هو هل التعالي عن الحقائق الصادمة، والاستدارة من حولها كيفما اتُّفق، أو حتى تجاهلها بالمطلق، يلغي الحقائق الساطعة سطوع الشمس في نهارٍ قائظ، أو يشطبها هكذا من الذاكرة المستباحة؟ وهل الهروب من ضرورات التقاط جمرات المسؤولية الأخلاقية برؤوس الأصابع العارية، يخمد أوارها المتقد تحت غلالةٍ رقيقة من الرماد الساخن؟ وهل إغماض العين عن تجليات الحالة القبيحة يمنع الحالة المرفوضة هذه من الانتشار والتجذر؟
ولا أحسب أن هذه الأسئلة المتبوعة بعلامات الاستفهام، وليس بإشارات التعجب بعد، بنت هذه اللحظة التاريخية النازفة، ولا هي مستلهمةٌ من فانتازيا نص روائي خصب الخيال، لا سيما وأن المشهد المفعم بالرايات المذهبية، والمليشيات الطائفية، وتعبيرات الكراهية والثارات التاريخية، المحمول على أكتاف الأقليات المذهبية، أبلغ من كل قولٍ متعففٍ عن تسمية الولد باسم أبيه الحقيقي، ومن اجتراح الكلام المراوغ في حضرة الاعتراف الضمني بأن البحر هو البحر، وأن الماء لا يعرّف إلا بكونه ماء.
وبالانتقال من هامش الهامش إلى متن الرواية، فإنه يمكن القول، إن ما يجري تباعاً في مدينة حلب منذ عدة أشهر، وما يتواصل الآن في الموصل على قدم وساق، يقدّم مثالاً نموذجياً على ما نحن بصدده في هذه المعالجة، الرامية إلى فضّ التباسات الخطاب الرائج بقوة، وفرز طيف ألوان الصورة الجاري تظهيرها بأقل قدرٍ من الكياسة، وتشخيصها على نحو تعسفيٍّ لإخفاء جوهر هذه الحروب المذهبية التي تتقدّم فيها الاعتبارات الدينية الفجّة على الاعتبارات الوطنية الخجولة.
ذلك أنه مهما برعت ماكينات الدعاية الإيرانية على وجه الخصوص، وخاض أربابها في فنون التعمية الإعلامية بكل اقتدارٍ وبراعة، فإن ذلك لا يحجب حقيقة أن المدينتين السنيتين الكبيرتين في شمال سورية وشمال العراق، حلب والموصل، تتعرّضان الآن، كلٌّ على حدة، إلى حملةٍ حربيةٍ منسّقة، أولاهما بقيادة روسيا، وثانيتهما بزعامة الدولة العظمى الوحيدة، لإعادة هندسة ديمغرافيا المشرق العربي، تحت ذرائع وجيهة من حيث المظهر، كالحرب ضد آفة الإرهاب المستشرية، ومسوّغات باطنها فيه العذاب لأمةٍ مستهدفةٍ من الأقليات المذهبية، المستقوية بتحالفاتٍ خارجية هجينة.
وإذا كان صحيحاً أن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، هذا المخلوق الذي استعدى كل من في محيطه القريب، واستجرّ على نفسه انتقام أبعد دولةٍ في العالم البعيد، حرب لها ما يبرّرها، فإن من الصحيح أيضاً، أن القوى المتجحفلة حول أقدم وأهم حاضرتين باذختين في العراق والشام (حلب والموصل)، وهي، في جوهرها، قوى ذات طبيعة مذهبية صارخة، أتاح لها خطاب “داعش” الوحشي وممارساته الإجرامية، التساوق بنجاح، مع حملتين عسكريتين عرمرميتين، وتوظيف مدخلاتهما ومخرجاتهما معاً في لعبة قمار كل أوراقها مكشوفة.
وليس من شكٍّ في أن دمشق وبغداد، العاصمتين التاريخيتين لأقدم إمبراطوريتين عربيتين (الأمويين والعباسيين) شهدتا، مع مرور الوقت، تبدلاتٍ ديموغرافية كثيرة، حيث تمكّنت الأقليات، في غضون العقود القليلة الماضية، من الاستيلاء التدريجي على روحهما السنيّة، وتغيير موازينهما السكانية بهذه الدرجة أو تلك، فيما ظلت حلب والموصل، وهما الأعرق والأقدم من العاصمتين السياسيتين، بمنأىً عن ذلك التبديل الاجتماعي البطيء، الذي وقف على تخوم الحاضرتين الشماليتين المنكوبتين الآن، ولم يدخل إلى قلبهما بقوة.
ويبدو أن اللحظة المواتية لتسديد الحساب المؤجل قد أزفت، بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، لا حصر لها، وأن السانحة قد باتت مواتيةً أكثر من أي وقت مضى، لاستكمال تلك الهجمة الضارية التي بدأت في دمشق قبل نحو أربعة عقود. وفي بغداد منذ الغزو الأميركي لبلاد الرافدين، وإن مد بحر الرايات المذهبية الهائج يقول؛ لقد آن أوان غمر حلب والموصل بالمياه المالحة، اغتناماً لفرصةٍ نادرةٍ لن تتكرّر، كان من شبه المستحيل استثمارها على هذا النحو، من غير دخول أقوى قوتين عسكريتين على وجه الأرض، في معمعان هذه الحروب المتزامنة.
وعليه، يمكن الافتراض بسهولة أن حلب والموصل اللتين تتعرّضان، في هذه الأيام، لهجمتين ضاريتين، أو قل عملية تدمير منهجية في رابعة النهار، هما أقرب ما تكونان إلى أختين شقيقتين، مهدّدتين بالاغتصاب أمام الملأ، وسط ما يشبه الرضى، أو غضّ البصر على الأقل، من جانب أولياء الدم، ممن يشيحون بأوجههم عن الفعلة المذلّة بحقهم، فيما لم يتورّع بعضهم من الرقص في حفلةٍ تجللهم بالعار إلى يوم القيامة.
خلاصة القول؛ إن الوجود السني في بلاد الهلال الخصيب يتعرّض في هذه الآونة إلى تهديدٍ وجوديٍّ، لا سابق له منذ قرون بعيدة، ليس بفعل ما تشهده هذه المنطقة من تهجيرٍ منهجيٍّ وتشتيتٍ سكاني فقط، وإنما أيضاً، بفعل افتقار هذا الوجود الذي يشكّل عماد الأمة، للعمق الديموغرافي القادر على الدفاع عن حق البقاء أولاً، وللزعامة المؤهلة للتعبير عن ضمير الأمة ثانياً، الأمر الذي يمكن الاستنتاج معه أن ما بعد معركتي حلب والموصل لن يكون كما قبلهما.
المصدر : العربي الجديد