لا يبدو أن موجة الاحتجاجات المصرية التي بدأت خلال الأسابيع الماضية قد تتوقف قريبا؛ فغضب المصريين ليس وليد لحظة عابرة، بل نتاج ست سنوات من “الحكم العسكري والقبضة الأمنية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة”.
ولكن، مع كل ما فعله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من حملات اعتقالات واسعة وتصفية مباشرة ومحاكمات عسكرية وحملات تشويه لكل المعارضين له منذ توليه الحكم بانقلاب في يوليو/تموز 2013؛ لم يستطع أن يمنع المصريين من التعبير عن كرههم له بطريقتهم الخاصة.
في الواقع، لقد حوّل المصريون “السيسي السفاح” إلى “بلحة”؛ فقد سخروا منه واستهزؤوا بقبضته الأمنية وبجبروته، كأنها معادلة مضى فيها الطرفان -الشعب والنظام- إلى أقصى ما يستطيعان فيه إلحاق الأذى ببعضهما البعض.
فكيف تمكن المصريون من الوقوف أمام نظام السيسي بسلاح “السخرية”، كآخر أداة ردع ضد الدولة يملكها الشعب ويعبر من خلالها عن موقفه؟ وكيف أصبحت “سخرية المصريين ثورة”؟
“بلحة”.. مقاومة الإحباط
في زمن التواصل المفتوح عبر الإنترنت، ظهرت أجناس جديدة من المعارضة، التي من الصعب محاصرتها ومواجهتها، ويبرز فن “الميمز” (memes) الساخر، بوصفه واحدا من تلك الأجناس.
فبعد موجة اليأس العارمة التي غلبت “شباب يناير” بسبب النهاية المأساوية التي وصلت لها الثورة في صورة انقلاب عسكري، لم يجد هؤلاء الشباب بديلا غير تجريد “الطاغية” من أهم ما يملكه؛ “جبروته”.
فلا المعتقلات ولا التعذيب ولا القمع استطاعت منع تحويل السيسي إلى “بلحة”، فهو يظهر الآن في صور ساخرة جردته من سلطته وكرامته بمجرد كتابة كلمة “بلحة” في أي محرك بحث على الإنترنت؛ كعادة المصريين في إطلاق اسم “بلحة” على كل من يدّعي الذكاء والفطنة، لكنه في الواقع “لا يتصرف إلا بغباء”.
ويبدو أن استخدام السخرية على الانترنت، كآخر آلية معارضة متبقية، جعلها زاخمة بكافة أنماط وأشكال “المسخرة”، وهو ما جعل السيسي في مأزق حقيقي؛ فمن ناحية لا يوجد نظام مهما بلغت سطوته يستطيع احتواء كافة موجات السخرية منه على الإنترنت.
ومن ناحية أخرى، فإن تجاهل السخرية فتح الباب أمام فيض من “الميمز” وتصميمات “الغرافيك” التي جردت السيسي من كافة أشكال الرعب والرهبة التي حاول خلقها في نفوس المصريين.
ويطرح الباحث محمد حسام الدين إسماعيل في كتابه “ساخرون وثوار” سؤالا محوريا في ما يتعلق بقدرة السخرية على إشعال ثورة؛ فيقول “هل السخرية السياسية مجرد تنفيس عن القهر السياسي تحفظ الوضع القائم؟ أم آلية من آليات المقاومة السياسية؟”
وتأتي الإجابة عن هذا السؤال في شكلين: الأول أن الحالة المصرية قد تبدو للوهلة الأولى أقرب للخيار الأول، وهو أن المصريين يستخدمون السخرية للتنفيس عن المكبوت في مجتمع تكالبت عليه قوى القهر والفساد، حسب ما يرى الكاتب.
لكن يمضي الكاتب مؤكدًا أن التدقيق في الحالة المصرية يحول نظرنا للخيار الثاني؛ وهو “المقاومة السياسية”، فالسخرية السياسية التي تأتي في إطار خطاب سياسي متماسك إلى حد ما تكون وسيلة فعالة في المقاومة وليست مجرد تنفيس.
الرأي نفسه يتبناه الباحث السياسي سيف الدين عبد الفتاح، حيث أورد في مقال له بعنوان “في السخرية حتف المستبد” ما نصه “أن السخرية تنال من الطاغية المستبد وتعريه، لا تجعله مهابا، فهي تعري فعله الدنيء وعمله الخسيس”.
وبشكل عام، يُمكن القول إنه من الصعب أن يخاف المصريون من نظام يسخرون منه ليل نهار على الإنترنت، كما أنه من الصعب ألا يتأثر “حزب الكنبة” من المصريين بهذا الفيض من التصميمات الساخرة.
اللاعنف في مواجهة العنف
يواجه نظام السيسي مشكلة حيوية مع التصميمات الساخرة، وهي أن تلك التصميمات مهما بلغت حدتها فهي في النهاية سلمية تماما كوسيلة تعبير. ومع ذلك تقابل السلطة هذا النوع السلمي من السخرية بعنف شديد واعتقال وتعذيب.
وهنا يكمن جوهر الحرج الذي يقع فيه السيسي، وهو البحث عن طريقة ما لتسويغ ممارسة العنف ضد معارض سلمي أعزل لا يملك في جعبته سوى بعض “الميمز”.
ما يزيد الطين بلة، هو أن هذا العنف المفرط في التعامل مع شباب غير عنيف يزيد حالة الكره والسخط في نفوس المصريين ضد السيسي، لأن في النهاية السخرية كوسيلة معارضة من جانب الشباب لا تقارن بوسائل تغيير أخرى غاية في العنف، مثل تلك التي تتبناها “داعش” مثلا.
وهو ما يخلق حالة تعاطف من قبل “حزب الكنبة” تجاه الشباب الثوري، مهما حاولت الآلة الإعلامية للنظام تصويرهم بأنهم “خونة مدفوعون من قوى أجنبية أو من الإخوان المسلمين”.
هنا يتبدى أمامنا ما أطلقت عليه الكاتبة منة الله الحريري “عبقرية الترميز”، في دراستها عن السخرية المنشورة في “فورين بوليسي”، حيث تقول الحريري “في السخرية يظهر الإنسان عبقرية الترميز لديه؛ الرموز التي يصنعها ليجعلها تحمل الرأي الحقيقي الذي يريد أن يقوله (…) وذكاءه في النفاذ إلى المناطق المحرمة الممنوعة، والهدف من هذا دائما هو إحراج السلطة.
المصدر: الجزيرة