يتوقع الكثيرون ألا تتجاهل مؤسسة منح جوائز الأوسكار في مسابقتها القادمة، “الأفلام السوداء” أو النجوم السود خاصة مع ظهور عدد كبير من الأفلام التي يتقدمها فيلم “مولد أمة” للمخرج والممثل نات تيرنر (37 سنة) الذي يعتبر من أفضل وأهم أفلام العام الأميركية على المستوى السينمائي، وإن كان الكثيرون يشككون في إمكانية حصوله على جوائز في مسابقة الأوسكار ناهيك بالطبع عن وصوله إلى الترشيحات من الأصل، لا لسبب فني وإنما لأن هناك إجماعا على أهميته وبراعة مستواه الفني.
ويتلخص السبب في أنه بعد أن بدأ عرض الفيلم أعادت إحدى الصحف الأميركية التذكير بالاتهامات التي كانت سبق وأن وجهت إلى نات تيرنر عام 1999 باغتصاب فتاة، ورغم أن المحكمة برّأته بعد ذلك، لكن إعادة الموضوع إلى ساحة النقاش العام تركت آثارا سلبية، لا شك أنها ستؤثر على أعضاء الأكاديمية الأميركية لعلوم وفنون السينما التي تمنح جوائز الأوسكار!
مواهب السود
لم يكن “مولد أمة”، وهو الرد السينمائي الأسود على فيلم ديفيد وورك غريفيث الكلاسيكي (من عام 1915) بالاسم نفسه، الوحيد الذي يبرز مواهب السينمائيين السود، بل جاءت أفلام أخرى ملفتة للنظر مثل “الحواجز” “Fences” الذي أخرجه وقام ببطولته دنزل واشنطن، ويصور فيه كيف يتشدد لاعب سابق محترف في رياضة البيسبول في الاعتراض على حق ابنه المراهق الشاب في ممارسة اللعبة بعد أن يعود إلى منزل الأسرة الذي كان قد هجره، صحبة صديقته التي أنجب منها طفلا.
ويروي فيلم “أرقام خفية”، وهو من إخراج الأميركي (الأبيض) تيودور ميلفي، القصة الحقيقية لثلاث نساء من السود، هن عالمات الرياضيات اللاتي ساهمن في تطوير برنامج الفضاء الذي أمكن بواسطته إرسال “جون غلن” ليصبح أول رائد فضاء أميركي يدور بمركبته حول الأرض، وتقوم ببطولة الفيلم ثلاث ممثلات من أصول أفريقية، مع كريستين دانسنت وكيفين كوستنر.
الفيلم الأميركي “أرقام خفية” قامت ببطولته ثلاث ممثلات من أصول أفريقية، مع كريستين دانسنت وكيفين كوستنر
أما فيلم “ضوء القمر” فهو من إخراج المخرج الأسود باري جنكنز، ورغم أنه يصور محنة شاب يعاني من فقدان حنان الأم التي أدمنت المخدرات ويقع بدوره فريسة لتاجر مخدرات أسود، إلا أنه من الممكن اعتباره أول فيلم يصور علاقة مثلية بين البطل الشاب وصديقه الذي يجد فيه الحب والتعاطف.
والطريف أن من بين الأسباب التي جعلت حظ نيت باركر مخرج فيلم “مولد أمة” يتراجع في الترشح للأوسكار، تصريحه الصحافي بأنه لن يقبل بإخراج فيلم عن علاقة مثلية بين السود الأميركيين لأنه سيكون إساءة لهم، الأمر الذي أدى إلى احتجاج جماعات الدفاع عن حقوق المثليين في الولايات المتحدة.
ومن أبرز الأفلام التي تتناول مشكلات السود الأميركيين فيلم “لافنغ” للمخرج بيل نيكولز الذي عرض في مسابقة مهرجان فينيسيا ويروي قصة كفاح زوجين، رجل أبيض وامرأة سوداء، تزوجا وتعرضا للاضطهاد ومغادرة موطنهما. وهناك أيضا الفيلم البريطاني من التمويل الأميركي “مملكة متحدة” عن قصة الحب التي جمعت بين أمير أفريقي ينتمي إلى إحدى القبائل في بوتسوانا وفتاة إنكليزية، وهي قصة حقيقية تسببت في أزمة سياسية في خمسينات القرن الماضي.
هل جاء كل هذا الاهتمام من جانب هوليوود بالأفلام “السوداء” كرد فعل على ما واجهته من انتقادات لاذعة وصلت حد المقاطعة لحفل الأوسكار في العام الماضي؟ لا شك أن هذا السبب وارد تماما، وعلى الأرجح أيضا كما ترى مجلة “فاريتي” المتخصصة في الصناعة السينمائية، أن تُمنح بعض جوائز الأوسكار إلى فيلم أو أكثر من بين هذه الأفلام، حتى تنفي هوليوود “الليبرالية” عن نفسها تهمة التفرقة العنصرية.
إلى جانب “سينما الأفارقة والسود الأميركيين” كان هناك اهتمام ملحوظ بقضية المهاجرين التي فرضت نفسها على الكثير من الأفلام، أبرزها الفيلم الإيطالي “نار في البحر” للمخرج جيانفرانكو روزي، الذي حصل على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي.
ويصور الفيلم، الذي يمزج بين الأسلوبين الروائي والتسجيلي، مأساة اللاجئين الأفارقة والسوريين والعراقيين الذين يعبرون المتوسط هربا من الحروب الأهلية والصراعات العرقية والدينية في بلادهم ويغرق معظمهم خلال الرحلة في مياه البحر.
وتدور مشاهد الفيلم قبالة سواحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية ثم على أرض الجزيرة نفسها، وتصور المأساة المستمرة التي يتعرض لها اللاجئون، وكيف يتم انتشال بعضهم من عرض البحر، وكيف تتعامل معهم السلطات الإيطالية، والمشكلات التي يواجهونها في حياتهم الجديدة داخل المعسكرات المغلقة التي تضعهم فيها السلطات.
ويتناول الفيلم حياة الصيادين الإيطاليين الذين يقطنون الجزيرة، ويركز بوجه خاص على تفتح وعي طفل في علاقته بأسرته وأصدقائه وطموحاته المستقبلية، كما يكشف الكثير من التفاصيل المجهولة عن معاناة اللاجئين من خلال ما يسجله من شهادات مباشرة وعفوية سواء من خلال التداعيات الصوتية أو الأغاني التي ينشدونها.
قضية المهاجرين تناولها أيضا عدد من الأفلام العربية والأفلام الأجنبية التي أخرجها مخرجون من أصول عربية، ففي الفيلم المصري “آخر أيام المدينة” لتامر السعيد، نرى شابا عراقيا يعيش في برلين، لكنه يلتقي بأصدقائه من لبنان والعراق ومصر في القاهرة في إطار ندوة ثقافية، ثم يشتبك الجميع معا في حوارات ساخنة تتضمن مقارنات بين حال المدن العربية مثل بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة، وبين الحياة في برلين، وشعور كل منهم تجاه بلده.
وبينما يعبر معظمهم عن الرغبة في الهجرة، يتمسك شاب عراقي قادم من بغداد بالبقاء في مدينته رغم كل شيء، إلاّ أننا سنعرف في النهاية أنه فقد حياته جراء أحد الانفجارات اليومية التي تستهدف المدنيين هناك. وفي الفيلم نفسه شخصية فتاة مصرية تعجز عن أن تتواءم مع الوضع القائم في مصر فتغادر البلاد، بينما يقف بطل الفيلم نفسه حائرا لا يعرف أين يذهب وهو العاجز عن العثور على سكن يقطنه في عاصمة تواجه أقصى درجات الهدم والانهيار.
وفي الفيلم التونسي “نحبك هادي” للمخرج محمد بن عطية، الذي حصل على جائزتين في مهرجان برلين، نرى شخصية شقيق البطل، وهو مهندس هاجر إلى فرنسا وتزوج من فرنسية واستقر هناك، ثم يعود إلى تونس لحضور حفل زواج شقيقه، ولكن دون أن تأتي معه زوجته الفرنسية وابنته منها، بسبب رفض والدته قبولها وسط الأسرة، وهي مشكلة تسببت في الكثير من المعاناة للرجل المتمزق بين ولائه لأسرته وانتمائه إلى البلد الذي هاجر إليه وأتاح له فرصة العمل الكريم.
وفي فيلم “الطريق إلى إسطنبول” للمخرج الجزائري الأصل رشيد بوشارب، نتابع مشاهد مكثفة، على غرار فرار اللاجئين السوريين من بلادهم عبر الحدود التركية، وكيف تتعامل معهم السلطات على الجانب الآخر من الحدود، بينما تحلق المروحيات الحربية فوق رؤوسهم، كما نشاهد قصف ودمار القرى السورية القريبة من الحدود، ورغم أن الفيلم يصور بحث امرأة بلجيكية عن ابنتها التي ذهبت مع صديقها وعبرت لكي تنتمي إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فإن مشاهد اللاجئين الذين تنضم إليهم السيدة البلجيكية خلال سعيها للوصول إلى طريقة لاختراق الحدود والوصول إلى ابنتها في مدينة الرقة بسوريا، تظل من أكثر مشاهد الفيلم العالقة بالذاكرة.
(نار في البحر) يصور مأساة اللاجئين الأفارقة والسوريين والعراقيين الذين يعبرون المتوسط هربا من الحروب الأهلية
علامات في السينما العربية
في السينما المصرية كان أكثر الأفلام رواجا في السوق السينمائية فيلم “هيبتا.. المحاضرة الأخيرة” للمخرج هادي الباجوري، وهو مقتبس عن رواية لمحمد صادق تدور حول فكرة الوقوع في الحب وتداعياته، ليس من خلال تساؤلات ذهنية وفلسفية، بل من خلال استعراض قصص يرويها محاضر مرموق، شارحا كيف تولد المشاعر العاطفية، ثم تتطور ويتطور وعينا بها لتصل إلى نقطة معينة، إما أن تستقر عندها وإما تنتهي.
وهذه الأفكار تتدرّج في القصص الأربع، التي يرويها الدكتور شكري (يقوم بالدور ماجد الكدواني)، في محاضرة أخيرة على جمهوره من الشباب والكبار، قبل أن يعتزل بسبب اشتداد حدة المرض عليه.
وربما يعود سبب النجاح الكبير الذي حققه الفيلم في ظاهرة غير مسبوقة لفيلم لا ينتمي إلى الكوميديا الهزلية، كونه يلمس بعض الأفكار التي تراود شباب اليوم وهم يبحثون عن الحب، عن الطرف الآخر والشريك الذي يمكن الثقة به في واقع مضطرب اختلطت فيه القيم والمعايير وضاعت الحقيقة.
وكان أفضل الأفلام المصرية في العام فيلم تامر السعيد الذي سبقت الإشارة إليه “آخر أيام المدينة”، يليه فيلم “اشتباك” لمحمد دياب الذي شارك في تظاهرة “نظرة ما” في مهرجان كان السينمائي ويتناول بأسلوب سينمائي شديد الإحكام والدقة ما حدث في مصر من صراع لا يزال قائما، بين جماعة الإخوان المسلمين، ومعارضيها وصولا إلى 30 يونيو 2013 وما بعده.
ومن أهم اكتشافات العام الفيلم السعودي “بركة يقابل بركة” للمخرج محمود صباغ ليس فقط نتيجة جرأة موضوع الفيلم، بل لمستواه الفني الرفيع، وأسلوب مخرجه المتمكن في رواية قصة بسيطة لها دلالاتها المتعددة، تدور في المجتمع السعودي في إطار كوميدي لطيف.
فهو يعرف كيف يصوغ فكرته، ويدعمها بالتفاصيل، ويدفع الحبكة إلى الأمام، ويستولي على مشاعر المشاهدين، مسلطا الأضواء على الكثير من السلبيات، لافتا النظر إلى القيود المفروضة على العلاقة بين الرجل والمرأة داخل السعودية. وبرز بصفة كبيرة الفيلم الإماراتي “المختارون” للمخرج علي مصطفى الذي يدور في أجواء مستقبلية في الشرق الأوسط بعد أن يتفجر الصراع من أجل البقاء بسبب شح المياه والحروب المشتعلة.
أما أفضل أفلام العام الأجنبية، فهي أولا: فيلم ”لا لا لاند” للمخرج الأميركي داميان شازيل الذي يتوقع أن يرشح للحصول على عدة جوائز أوسكار، وهو الفيلم الذي افتتح به مهرجان فينيسيا، يليه فيلم بكالوريا (أو التخرج) للمخرج الروماني كريستيان مونجيو الذي نافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان وحصل على جائزة أفضل إخراج، والفيلم البريطاني “اسمي دانييل بليك” للمخرج المخضرم كن لوتش الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان، ويناقش من خلاله أسلوبه الواقعي المؤثر في مشكلات نظام التأمين الاجتماعي في بريطانيا وانعكاسها على حياة الأفراد، والفيلم الأميركي “العائد” للمخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليس إيناريتو الذي تفوق فيه الممثل ليوناردو دي كابريو ونال عنه أوسكار أفضل ممثل، و”البائع” للمخرج الإيراني أصغر فرهادي من التمويل الفرنسي.
ومن أفضل ما عرض خلال العام أيضا الفيلم الأميركي الوثائقي البديع “قبل الطوفان”، وهو من إنتاج ليوناردو دي كابريو وإخراج فيشر ستيفنز، وفيه يظهر دي كابريو باعتباره البطل الأساسي للفيلم الذي يناقش مشكلات تلوث البيئة والاحتباس وفيه ينتقل دي كابريو خلال ثلاث سنوات، من بلد إلى آخر، يلتقي المسؤولين والخبراء والنشطاء والأكاديميين والسياسيين، ويتدخل بتوجيه التساؤلات، ويناقش ويستجوب ويحاول الوصول إلى الحقيقة، ويدعو إلى اتخاذ موقف عاجل من تلك القضية الخطيرة.
أشهر الوفيات
فقدت السينما العربية هذا العام عددا من أهم السينمائيين والنجوم، فقد توفي المخرج محمد خان، والممثل محمود عبدالعزيز، والممثل ممدوح عبدالعليم، والممثل حمدي أحمد، والممثل سيد زيان، والناقد صبحي شفيق، والمخرج البحريني محمد جاسم شويطر، والمخرج السوري نبيل المالح، كما توفي الممثل المصري أحمد راتب والممثلة زبيدة ثروت وكاتب السيناريو محمود أبوزيد.
وعلى صعيد السينما العالمية فقدت السينما الفرنسية المخرج جاك ريفيت أحد رواد “الموجة الجديدة”، وتوفي المخرج الإيطالي إيتوري سكولا، والأميركي آرثر هيللر، والأميركي مايكل شيمينو، والبولندي أندريه فايدا، والممثل البريطاني آلان ريكمان، كما فقدت السينما الإيرانية المخرج عباس كياروستامي.
المصدر : العرب