يعتبر التأثّر والتأثير حالة طبيعية للمجتمعات لتكوين ذاتها وبناء هويتها الاجتماعية والثقافية الخاصة، فالعلاقة بين المجتمعات في هذا الجانب كالعلاقة بين أفراده في كونهم ذو طبيعة اجتماعية لا يمكن أن يعيش بمعزل عن البيئة المحيطة وعن الأفراد الآخرين، لذلك تعتبر العلاقة بين المجتمعات تكاملية لا يمكن لأحدهما دون الآخر.
تشكل الهجرة السورية حالة نادرة لم يشهد مثلها القرن مثيلاً، فالأعداد الكبيرة للسوريين الهاربين من جحيم الحرب خلال مدة زمنية قصيرة شكّل تحدياً كبيرة للمهاجرين والدول المستضيفة في الوقت نفسه، فكان الهم الأول للمهاجرين الأمان وتأمين لقمة العيش دون التفكير في أي شيء آخر، في حين كان التحدي الأكبر لتلك المجتمعات في محاولة استيعاب السير البشري وقولبته ضمن إطار تحافظ من خلاله على الإرث الثقافي للمجتمع من جهة وتنهض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى، ولعل الرؤية الأوروبية من خلال هذا المنظور ساهم بدرجة كبيرة في إعطاء السوريين مساحة أكبر تمكّنهم العطاء والإبداع وأن يكونوا فاعلين لا عالة على المجتمعات التي حاولت تقديم ما أمكن.
ولا ننكر حالة المخاض التي رافقت الهجرة والاندماج والصراع بين الفئات المختلفة في قبول أو رفض هذا العنصر الجديد الذي اعتبره البعض تهديداً للبنية المجتمعية وتغييراً ديمغرافياً لهيكلة النظام الاجتماعي الذي تعوّد على رتم محدد طوال عقود، لكن الحاجة الاقتصادية من جانب آخر جعلت الحبال بينهم رخوة أكثر بحكم حاجة هذه المجتمعات لليد العاملة التي من شأنها إحداث فرق لا يستهان به في تطوير المجتمع وتقدمه، فكانت هذه الحاجة القشة التي أنقذت السوريين من الغرب في المجتمعات المستضيفة، إذ أعطاهم الأمر ثقة كافية في قدرتهم على إحداث فرق حقيقي في الموازين من خلال معارفهم التي اعتبروها في بادئ الأمر لا تنفع ولا تضرّ، لكن مع الوقت، ومع تزايد الطلب على المختلف وغير المألوف في هذه البيئات، أدرك السوريين حجم المعرفة والمخزون الثقافي الذي حملوه معهم في رحلتهم، وزاد في هذه الثقة العون الذي تلقوه والقبول الذي خرج من كون المهاجرين أرقاماً بشرية خاوية إلاّ من الألم والدمار، إلى تسليط الضوء على الذاكرة الشعبية واستحضار الماضي من خلال العديد من المشاريع الفنية والثقافية والشعبية التي قام بها السوريون في الخارج، وحتى وإن بدت التجارب الأولى خجولة إلى حدّ ما إلاّ أن تزايد الطلب على المعرفة السورية في مختلف المجالات ساهم في اتّساع هذه التجارب لتشمل، ليس فقط السوريين فقط، وإنما مشاريع مشتركة ولدت نتيجة التزاوج بين الثقافتين، ليولد صنف جديد أو بالأحرى نظام جديد للعيش وطريقة التعاطي استساغه الطرفان وسعوا دائماً إلى تطويره من خلال الإبحار أكثر في أغوار الآخر لإجتثاث تلك المكنونات الدفينة التي ألفت الحرب عليها أتربتها خلال حقبة زالت بزوال البيئة المسببة لهذه الأتربة.
من خلال العلاقة التكاملية بين المجتمعات استطاعت الشعوب المحافظة على نفسها من الانقراض لتواكب التطور والحداثة وتتحلى بقدر كاف من الليونة التي تزيد من حياتها وتبقي تدفق الدم في عروقها مستمراً مهما طال الزمن، ولعل الدروس التي يمكن استخلاصها من التاريخ حول نجاة الحضارات بفعل المرونة تقبل المختلف من المجتمعات الأخرى كثيرة لا يمكن حصرها، وأمّا التي لم تستطع التكيّف مع البيئات الجديدة وتقبّل الآخر باختلافه أو محاولة مسك العصى من المنتصف على أقل تقدير، فنراها أصبحت درساً وحكاية ومثال يضرب به في كتب التاريخ إلى يومنا هذا، لذلك كانت بنية شخصية المواطن السوري المرنة -على الرغم من تفاوتها- عاملاً هاماً في التأثير والإتيان بعادات وتقاليد وثقافات مختلفة تماماً عن تلك التي تعوّد عليها السكان الأصليين، لكنهم وجدوا فيها من السلاسة ما لا يمكن رفضه، وكذلك كان الأمر بالنسبة لتلقي السوريين ومحاولتهم التأقلم والاندماج بأسرع وقت رغم حداثة الألم.
ففي الوقت الذي صدّر فيه السوري الفن والمطبخ السوري والموسيقى والأهزوجة وحتى اللباس والحميمية التي يحملها الجار لجاره، فإنه أخذ أيضاً الالتزام والقوانين واحترام الآخر بثقافة ووعي لا لأن القانون يفرض عليهم ذلك، فعلى سبيل المثال لا الحصر، استطاع الكثير من الفنانين طرح مواضيع مرتبطة كلياً بالبيئة السورية في أعمالهم، وإنما بأسلوب حضاري مستساغ لدى الآخر المختلف، فكانت الفنانة التشكيلية “ديمة الرفاعي” بحجابه السوري مثالاً وقفت أمامه الجاليات الأخرى موقف احترام وتقدير في كونها لم تضمحل في البيئة الجديدة، بقدر استطاعت نقل معارفها وذاكرتها بأمانة وصدق إلى المتلقي الذي لم يمكن أمامه إلاّ قبول ذلك النقاء في الفكر والطرح.