في أواخر آب /أغسطس الماضي أدلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالتصريح التالي: «إذا كان أيّ طرف في الشرق الأوسط أو سواه يخطط لانتهاك القانون الدولي عن طريق نسف سيادة ووحدة أراضي أية دولة، بما في ذلك الشرق الأوسط وشمال افريقيا، فإنّ هذا مدعاة إدانة». كان لافروف يردّ على أسئلة المراسلين الصحافيين، حول تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّ إسرائيل لن تتردد في قصف أية أهداف داخل سوريا يُراد منها تمرير أسلحة ستراتيجية إلى «حزب الله».
وفي آذار /مارس الماضي أعلن بشار الجعفري، ممثل النظام السوري في الأمم المتحدة، أنّ روسيا قد أبلغت إسرائيل بأنّ «قواعد اللعبة» في سوريا قد تغيرت، وأنّ حرّية النشاط الإسرائيلي في الأجواء السورية قد انتهت. وروى الجعفري حكاية مثيرة عن قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستدعاء السفير الإسرائيلي، وإبلاغه أنّ «اللعبة انتهت». وكان أيضاً تحت وطأة الحماس الملتهب الذي دبّ في أفئدة، وعلى ألسنة، وفي أقلام، أنصار النظام ومعلّقيه والمتعاطفين معه، بعد إطلاق نيران المضادات الأرضية لإبعاد طيران حربي إسرائيلي كان يحلّق في الأجواء السورية.
لم يكن هذا رأي الرادارات الروسية في مطار حميميم، ولا في قاعدة طرطوس الروسية، ولا على أيّ من البوارج الروسية في عباب المتوسط، حينما نفذت إسرائيل ضربة جوية فجر أمس، استهدفت معسكر الطلائع الذي يستضيف مصنعاً للأسلحة الكيميائية والصاروخية، تابعاً لـ»مركز البحوث»، في ظاهر مصياف، وعلى مبعدة كيلومترات قليلة من هذه المنشآت العسكرية الروسية. لزمت هذه الرادارات صمت القبور، في المجاز الشائع، وصمت المتيقظ البصير العارف، في المعنى الفعلي لقدرات هذه الرادارات على التنصت والرصد والتنبيه، كي لا يتحدث المرء عن الإنذار والتشويش والتعطيل.
هيهات، بالطبع، أن تتدخل روسيا لإيقاف عملية مثل هذه، ولا عزاء لأمثال لافروف (حول «انتهاك سيادة» الدول)، أو الجعفري (بصدد تغيير «قواعد اللعبة»)، فضلاً عن المعلقين البؤساء الذين بُحّت حناجرهم في وصف «رعب» إسرائيل من انطلاق مضادات النظام. يومها، للتذكير المفيد، ذهب بعض المعلقين إلى مستوى رسم اصطفاف جديد لقوى «الممانعة»، يبدأ من الضاحية الجنوبية في لبنان، ويمرّ من نظام الأسد، ويلتقي مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي (وعفّ البعض، في حياء مبتذل مفضوح، عن تسمية «الحشد الشعبي» وعصائب غلاة الشيعة)، ثمّ ينتهي في طهران (وتفادى الحياء الرخيص إياه ذكر الجنرال قاسم سليماني و»الحرس الثوري» الإيراني)، ولا ضرر في أن يعرّج قليلاً على اليمن وعبد الملك الحوثي!
لكنّ الحمقى، وبائعي التصريحات الجوفاء، وشبيحة النظام، وأبواق «الممانعة»، هم وحدهم الذين تجاسروا على التفكير بأنّ الكرملين (متمثلاً في بوتين، حصرياً، وليس البتة في لافروف وأضرابه)، يمكن أن يذهب إلى مواجهة مع إسرائيل، أو حتى ملاسنة لفظية، دفاعاً عن مصنع سلاح تابع للنظام، أو تديره إيران ذاتها. في المقابل، لا يحتاج كلّ ذي بصر وبصيرة إلا إلى استذكار واقعة زيارة نتنياهو إلى موسكو، في أيلول /سبتمبر) 2015، كي يستعيد الحقيقة البسيطة الساطعة: أنّ «قواعد اللعبة»، أو بالأحرى قواعد فضّ الاشتباك، بين موسكو وتل أبيب، في كلّ ما يخصّ تدخّل روسيا لصالح النظام أو تدخّل إسرائيل ضدّ منشآت النظام العسكرية، رُسمت هناك، يومئذ، وهي التي تظلّ سارية المفعول حتى إشعار آخر، طويل… طويل!
وللتذكير المفيد، لم تكن زيارة نتنياهو مبرمجة مسبقاً، على غرار ما يجري عادة بين الدول، خاصة وأنها الأولى العلنية (بعد زيارة سرّية، في خريف 2009، دامت ساعات قليلة)، وكان لائقاً أن تسبقها سلسلة تحضيرات ومراسم واستقبال ومظاهر احتفاء، فضلاً عن توقيع اتفاقيات مشتركة مختلفة. لقد ذهب نتنياهو صحبة غادي أيزنكوت رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وهرتزل هاليفي رئيس الاستخبارات العسكرية، وبدا جلياً بالتالي أنّ جدول أعمال الزيارة يتناول تفصيلاً ملموساً واحداً، هو الانتشار الروسي في مطار حميميم، وتعزيز القاعدة الروسية في طرطوس، والتفاهمات الروسية ــ الإسرائيلية العملياتية في حال قيام الطيران الحربي الإسرائيلي بأية عمليات في الأجواء السورية، وضمان عدم وقوع سوء تفاهم من أيّ نوع بين بين قاذفات الـ»سوخوي 27» الروسية، والـ»F-15» الإسرائيلية. ولقد برهنت الأشهر اللاحقة، منذ أيلول/سبتمبر 2015 وحتى أيلول/سبتمبر 2017، أنّ سوء التفاهم لم يقع أبداً، ليس في الأجواء السورية وحدها، بل كذلك على أرض الجولان، وفي الأجواء اللبنانية (باحة إيران الخلفية وساحة «حزب الله).
جانب آخر، في قراءة صمت رادارات موسكو عن عمليات إسرائيل في الأجواء السورية، هو أنّ بوتين ونتنياهو تمكنا ــ سريعاً، ودون عناء كبير في الواقع ــ من التوصّل إلى مسلّمة مشتركة، بسيطة وجوهرية في آن: أنّ اتفاقهما على إبقاء نظام بشار الأسد، في المدى المنظور، لا يعني إطلاق يد إيران في سوريا، خاصة لجهة تمكين «حزب الله» في المنطقة، وليس في لبنان وحده، على صعيد التسلّح الستراتيجي. وما دامت إسرائيل لا تقصف الفرقة الرابعة أو «الحرس الجمهوري» أو ما تبقى من أفواج وألوية النظام (إلا حين تمرّ، من مواقع انتشارها، قوافل السلاح المتوجهة إلى «حزب الله»)، فلا ضرر عند موسكو، ولا ضرار في تل أبيب! العكس هو الصحيح، في الواقع، لأنّ واحدة من روافع ضغط روسيا ضدّ اتساع نفوذ إيران في قلب النظام السوري، هو تحجيم دور «حزب الله» العسكري في سوريا، وإبقاء سقف تسليحه عند مستويات دنيا، أو هي لا ترتقي إلى السوية الستراتيجية.
جانب ثالث، لعلّ أهل «الممانعة» يعضون على النواجذ كلما استذكروه واضطروا إلى إغفاله عن سابق عمد، هو أنّ «هوى» بوتين الشخصي كان إسرائيلياً على الدوام، وليس سورياً أو فلسطينياً أو لبنانياً أو عراقياً أو مصرياً… ولعلّ سيّد الكرملين لا ينسى أنّ أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، لم يتردد في مباركة خيارات الجيش الروسي العنفية، وممارساته الوحشية، في الشيشان. ومؤشر العلاقات الروسية ــ الإسرائيلية في عهد بوتين لا يُقارَن، على أيّ نحو، بعلاقات موسكو مع حلفائها السابقين، أو اللاحقين، في العالم العربي، ويكفي استذكار واقعة راهنة تقول إنّ موسكو سبقت واشنطن في الحديث عن «القدس الغربية كعاصمة لدولة إسرائيل».
وفي التعليق على الغارة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مركز البحوث، في ظاهر مصياف، فجر أمس، كان عاموس يدلين، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، قد غرّد على «تويتر» بأنّ الضربة «ليست روتينية»، وفي تنفيذها وجهت إسرائيل ثلاث رسائل هامة: أنها لن تسمح بإنتاج أسلحة ستراتيجية، وأنها تعتزم فرض خطوطها الحمراء حتى إذا أهملتها القوى الكبرى، وأنّ حضور الدفاعات الجوية الروسية لن يعيق توجيه الضربات. ولم يفت يدلين أن يجمّل وجه إسرائيل القبيح، حين طالب المجتمع الدولي بتهنئة بلاده على ضربة «حميدة أخلاقياً»، لأنّ مصنع مصياف ينتج، أيضاً، البراميل المتفجرة التي «قتلت آلاف المدنيين السوريين»!
يبقى التذكير بما باح به الجنرال أمير إشيل، القائد السابق لسلاح الجوّ الإسرائيلي، من أنّ عدد الغارات ضدّ مواقع النظام السوري العسكرية، منذ 2012 فقط، يُحتسب بثلاثة أرقام، أي الـ100 فما فوق بالطبع. نصفها، أغلب الظنّ، نُفّذ تحت سمع وبصر الرادارات الروسية، وصمتها المطبق!
المصدر : القدس العربي