يستعيد النظام السوري سيطرته على دير الزور المدينة من “داعش”، في مشهدٍ مكرّر لما تم سابقاً في تدمر، وكأننا أمام حليفين يتبادلان مواقعهما، حيث تتطلب مصلحة النظام ذلك، وحيث استطاع التنظيم إلحاق الهزيمة بالجيش الحر، كما حدث في مناطق عديدة، في وقت فشل النظام ومليشياته الطائفية المساندة له في هذا الأمر، سواء في الرّقة أو دير الزور أو مخيم اليرموك ومنطقة جنوبي دمشق، أو بعض الثغور في ريف دمشق.
وتأتي معركة النظام المستعجلة لـ”تحرير” دير الزور في وقتٍ تتزاحم فيه حشود القوى التي تطالب بدخول هذه المعركة الحاسمة ضد التنظيم الإرهابي الذي سيطر على هذه المدينة قبل ثلاثة أعوام (يوليو/ تموز 2014)، بعد سقوط الرّقة في يد هذا التنظيم، والذي كان سيطر على الموصل في العراق قبل ذلك من دون معارك حقيقية تبرّر انهيار القوات العراقية وانسحابها المفاجئ، إضافة إلى الدور الكبير الذي لعبته المداخلات الدولية والإقليمية في ظهوره وتوسّع انتشاره، واحتلاله حيزاً كبيراً في مشهد الصراع في العراق وسورية بداية، ثم تحوّل هذا الصراع إلى مهمةٍ أساسيةٍ لكل القوى في المنطقة، في محاولة لتغيير مواقع الجبهات وأهدافها، من صراع بين المعارضة والنظام إلى صراع ضد الإرهاب.
لم تفطن المعارضة الإسلامية المسلحة إلى الأدوار المنوطة بهذا التنظيم الإرهابي، بل احتفت ببعض معاركه الوهمية لاحتلال مساحات من سورية، ووقفت مع من يساندها من المعارضة السياسية ضد التحالف الدولي وضرباته للتنظيم، من دون الالتفات إلى أن “داعش” كان يعمل ضمن الأراضي التي يسيطر عليها “الجيش الحر”، وليس النظام، كما أنه سيطر على المناطق الشعبية الحاضنة للثورة، لا سيما في محافظتي الرّقة ودير الزور، كما أسهم في تشويه الثورة السورية، وترويج دعاية النظام في أن الحرب في سورية هي ضد الإرهاب وضد الجماعات الدينية المتطرفة.
في حين كان النظام وحلفاؤه (إيران ومليشياتها خصوصاً) هم أكثر من استثمر في هذا التنظيم الذي لم يلق أي مواجهة منهم، طوال السنوات الثلاث الماضية، ما يلفت الأنظار إلى مشهد قافلة “الدواعش” الذين يجري نقلهم في حافلاتٍ مكيّفة، من الحدود اللبنانية إلى الشرق السوري، نتيجة اتفاق عقده حزب الله (بالوكالة عن إيران) معهم. ولعل هذا المشهد يكشف الأدوار التي لعبها “داعش” لمصلحة النظام من جهة وحزب الله من جهة أخرى، سواء على الأراضي السورية، حيث منحته فرصة السيطرة على القلمون الغربي الذي صمد طويلاً قبل أن “يحتله” داعش، كما قدمت لحزب الله فرصةً لبنانية فريدة لتظهيره “مخلصاً” للبنانيين من الوجود الداعشي على أراضيهم، وتخفيف أعداد اللاجئين السوريين، بعد موجة تحريضٍ من إعلام الحزب ضدهم، تضمنت كثيراً من اختلاق الأكاذيب حولهم بإظهارهم سبباً في “زعزعة الأمن والاقتصاد اللبنانيين”.
وتأتي البيانات “الإنسانية” الصادرة عن الحزب المذكور وعن الخارجية الإيرانية، والتي تلقي باللائمة على الطرف الأميركي الذي يضيّق على القافلة، ويأخذ عليه تهديد “المدنيين”، الأمر الذي لم نشهد مثله في تعامل إيران وحزبها في حربهم ضد السوريين، وحتى في تعاملهم مع اللاجئين السوريين في لبنان، لتشير إلى أن الحزب وإيران اللذيْن لم يلتزما بالقرارات الدولية لفكّ الحصار عن المدن السورية يدافع، في هذه البيانات، عن مصلحته المستمرة في وجود هذا التنظيم وسلامة عناصره، ربما لأنهم سيكونون العون له في معركة الفصل الكبرى في ريف دير الزور وليس في المدينة.
من المفيد التذكير أن معركة دير الزور، وأقصد المناطق الحدودية التي تصل “سورية المفيدة” التي يسيطر عليها النظام بالهلال الشيعي، تعيدنا إلى وقائع معركة حلب التي أدت إلى رسم خريطة طريق جديدة لمسار المفاوضات في جنيف، بعد أن أدخلت مسار أستانة إلى واجهة العمل المسلح والسياسي في آن معاً، وفتحت الطريق أمام اتفاقات فوق تفاوضية (مناطق خفض التصعيد)، ما يعني أن إنهاء “داعش” من الرّقة ودير الزور مرحلة جديدة في الصراع على سورية، تشبه مرحلة إنهاء جبهة النصرة من حلب وحصارها داخل إدلب، ليبقى مصير هذه المدينة مرهوناً بجملة التطورات الجارية في المعارك الآن، وبالأدوار الجديدة لقوات سورية الديمقراطية المدعومة أميركياً، والتي كادت، مراتٍ، تقف على حافّة الحرب مع تركيا.
إنهاء معركة دير الزور اليوم، سواء المدينة أو أطرافها، لا يعني إنهاء الصراع السوري وإنما تجميد حدوده، أي عند خطوط التماس أو خطوط النفوذ الحالية، إلى حين يتم إقرار نوع وطريقة المعركة التي تنهي وجود القاعدة في إدلب (جبهة النصرة)، حيث لا تنفع الترقيعات التي تجريها المعارضة السياسية (حكومة الائتلاف)، ولا تقنع التحالف الدولي بأن هذا ليس إعادة تدوير لجبهة النصرة، تحت غطاء الفصائل المسلحة الأخرى.
من ناحية أخرى، يحيل التطور المذكور إلى خيارين، إدامة الصراع أو وضع حد له، تمهيداً للاتفاق على شكل سورية المستقبل، لكن هذا الخيار أو ذاك سيخضع، على الأغلب، لتوافق، أو عدم توافق، القوى الدولية والإقليمية وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، من الناحيتين السياسية والأمنية، بالإضافة إلى أن أي توافق على شكل سورية في المستقبل سيخضع لتوجهات القوى الخارجية ومصالحها، أكثر بكثير مما سيخضع لمصالح السوريين وحقوقهم، خصوصاً في ظل ضعف المعارضة، وارتهاناتها لمصالح القوى الإقليمية، وتشتتها، والفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين في الداخل والخارج.
ولكن، هل هناك مساحة لانتصار أهداف الثورة؟ هذا السؤال المهم لكل من يؤمن بأن الثورة عندما انطلقت لم تكن مسلحّة، ولم تكن مرتهنة لممولين، وكانت سورية، بكامل مساحتها، تحت حكم النظام، إجابة السؤال من فحوى السؤال نفسه: “نعم” في الثورات، يبقى الأمل قائماً بانتصار أهدافها، على عكس الحروب التي تعلن القوى انتصارها أو خسارتها، ولأن أهداف الثورة ومقاصدها ليست هي ما ارتهنت للأنظمة المختلفة، وفشل كيانات المعارضة في تحقيق ما يريده السوريون لا يعني فشل الثورة، وإنما تعثّرها، وهو ما يجب أن نعترف به، كي ننهض من جديد.
المصدر : العربي الجديد