تكثفت ردود فعل السوريين المقيمين في تركيا على خبر إلقاء السلطات الأمنية التركية القبض على مشتبهٍ به في جريمة اغتيال الناشطة السياسية، عروبة بركات، وابنتها الصحافية، الشابة حلا بركات.
كان الجميع، وبحسب ما تم تسجيله على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، منذ اللحظات الأولى بعد انتشار خبر الجريمة، يشعر أنه مهدد، فالقاتل تمكّن من أن يزعزع حالة الطمأنينة التي يشعر بها السوري في اسطنبول، والتي تبدو راسخة فعلاً قياساً ببعض مدن الجنوب التركية، مثل غازي عنتاب وأورفه وكلس وأنطاكية التي كثرت فيها مشكلات السوريين، ولاسيما عمليات التصفية التي تعرّض لها بعضهم هناك، فالكل يتذكر أن غازي عنتاب شهدت مقتل ناشطين، هما ناجي الجرف وزاهر الشرقاط، في عمليتين منفصلتين، بالإضافة إلى توفر حوادث مختلفة تشير فعلياً إلى أن الوضع في اسطنبول يختلف عما هو عليه في الجنوب.
لهذا، كان شعور السياسيين، وكذلك الإعلاميين السوريين، إزاء الجريمة التي استهدفت عائلة بركات بالغاً في ترقبه وحساسيته، وزاد في الأمر سوءاً أن استهداف امرأتين عزلاوين مسالمتين بهذا الشكل يشير فعلياً إلى ملامح الجريمة السياسية، والتي يتهم فيها عادة النظام السوري أو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حيث يحضر المتهم الأول في هذه اللحظة عبر استدعاء تاريخه الحاضر منذ عقود في تصفية معارضيه وعدم التسامح معهم، ويمكن أن يدفعه شعوره بالتفوق على الأرض السورية في الوقت الحالي إلى الإقدام على خطوةٍ ما مثل هذا الاغتيال، ليوجه رسالةً إلى جميع المعارضين، يقول لهم فيها إنه لا ينسى.
وكذلك يحضر المتهم الثاني، أي تنظيم الدولة الإسلامية، بعد أن تعرّض لهزائم كبيرة خلال الفترة السابقة، نتجت عنها طروحات خرجت من رحم التنظيم نفسه، دعت إلى استمرار فاعليته عبر تعزيز نشاط الخلايا النائمة، لتقوم بعمليات تصفية كل من يعارضه، وينتقد جرائمه.
المسألة هنا بالنسبة للفئات السورية الأكثر قرباً من قضيتها، والفاعلة أكثر في أنشطتها، والتي استقرت في تركيا، مستندة إلى حالة الأمان العامة في البلد، تشبه فقدان الملاذ الأخير، فقدرة هذين المتهميْن على تنفيذ عمليات اغتيال في وضح النهار تعني فعلياً أن السوري المعارض لهما بات من دون غطاء يحميه، ومن دون ساتر يقيه، بعد إغلاق كل المنافذ أمامه، خصوصا أن سبل اللجوء إلى أوروبا، وإلى بلدان أخرى، باتت شبه مغلقة، بعد مرور ما يقارب السبع سنوات على بداية الثورة السورية، حيث قام الأوروبيون تحديداً بإجراءاتٍ غير مسبوقة، بهدف منع تدفق اللاجئين إلى بلدانهم، ما يشير إلى أن العالم لم يعد يرحب بالسوري الذي كانت الأخطار ومازالت تحاصره في بلده، وفي البلدان المجاورة.
ربما أوشكت الأجهزة الأمنية التركية على حل لغز جريمة آل بركات، لكن أحداً في العالم لن يستطيع حل التعقيد العالي لشعور السوري بفقدانه الأمان، في كل الأمكنة التي يعيش فيها حالياً! فالقضية في جذورها لا تتوقف عند جريمة هنا، أو جريمة هناك، بل تصل في تفكيك عمقها إلى ذلك التراكم القهري لشعور فقدان الأمان والاستقرار الذي صنعه النظام البعثي في كل أطواره لدى السوريين، بعد أن اغتصب الدولة وجعلها واجهة سياساتٍ كرّست عند المواطن السوري إحساسه بأنه متهم دائماً من الأجهزة الأمنية، وبأن ما يملكه قابل للخسارة في أي لحظة، لصالح الدولة ومؤسساتها، وأن مكان فاعليته المحتمل هو السجن، لا المصنع أو المكتب أو الأرض، وأن مستقره الثابت هو القبر، وليس بيت التقاعد! لقد تم تحويل الشعب السوري إلى أقوام من البدو الرحل، يغادرون وطنهم، بحثاً عن مقومات العيش، ولكن مع فرق أن البدوي يستطيع العودة إلى مكانه الأول، بينما لا يستطيع ملايين السوريين العودة إلى بلدهم مطلقاً، ولا أدل على أن هذه سياسة بعثية رسمية سوى تصريحات قادةٍ في عصابات النظام العسكرية، والتي هددت اللاجئين بالموت في حال عودتهم إلى سورية.
لا يريد السوريون في تركيا، وفي البلدان الأخرى، أن يكونوا مضطرين للمغادرة والرحيل ثانية. لهذا، نظر كثيرون إلى وقائع الجريمة التي حدثت في اسطنبول بهذا الكم الهائل من الترقب والهواجس، وسيتمسكون بفرضية أن القاتل قد بات في يد العدالة، لا لأن الوقائع تقول هذا فعلياً، بل لأن غالبية هؤلاء يعرفون أنهم لا يمتلكون جواباً على سؤال رمزي بالغ الأثر والدلالة، همس به محمود درويش في قصيدة “تضيق بنا الأرض”، يقول: إلَى أَيْنَ نَذْهَبُ بَعْدَ الحُدُودِ الأخِيرَةِ؟ أَيْنَ تَطِيرُ العَصَافِيرُ بَعْدَ السَّمَاءِ/ الأَخِيرَةِ أَيْنَ تَنَامُ النَّباتَاتُ بَعْدَ الهَوَاءِ الأخِيرِ؟
المصدر : العربي الجديد