في السابع عشر من الشهر الجاري سيحتفل شيوعيون، عبر العالم، بمرور قرن على الثورة البلشفية في روسيا. من المحتمل أن هذه الاحتفالية ستكون فولكلورية، بعيداً عن أجواء أيام عز الاتحاد السوفييتي الذي بات شيئاً من الماضي البعيد. ربما في البيوت أو أماكن السهر، سيجتمع عشرات من المخلصين للعقيدة الشيوعية، فيشربون نخب الماضي السعيد.
كان الاتحاد السوفييتي، في الوعي العام الشيوعي في سوريا، وبلدان أخرى كثيرة، نوعاً من «القِبلة» الأيديولوجية والسياسية، بل والأخلاقية أيضاً. فكان يتم تثقيف الشباب المرشحين لدخول عالم الشيوعية، بأساطير جميلة عن ثورة أكتوبر «الإشتراكية العظمى» التي قلبت تاريخ العالم المعاصر، وأطلقت مسيرته المظفرة نحو «عالم خال من الطبقات والحروب والفقر والجهل»، كما من كافة أنواع الاضطهاد القومي والطبقي، والتمييز العرقي والجنسي.. أساطير لها أبطالها الخارقون الذين اجترحوا المعجزات، بفكرهم وعملهم وتفانيهم وسمو أخلاقهم.
كان ذلك في إطار ترسيمة أيديولوجية سياسية ترى في روسيا قاطرة التحول العالمي الكبير نحو الإشتراكية، ومعها «منظومة الدول الاشتراكية، والطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، وشعوب العالم الثالث المناضلة ضد الامبريالية».
كان هذا الضباب الكثيف يغطي على واقع ما سمي، في الأدبيات الغربية المضادة، بالحرب الباردة بين الدولتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. باردة، لأنها تخاض بأدوات هي دول وحركات سياسية ومنظمات عنفية وأجهزة استخبارات، بدلاً من الحروب «الساخنة» التي تخاض بين جيوش نظامية لدولتين أو أكثر. كل ذلك بات وراءنا منذ عقود. كانت بداية النهاية بالنسبة للنظام الشيوعي في روسيا وتوابعها، هي حرب أفغانستان التي كشفت عن محدودية القوة العسكرية للنظام، وهي جوهرة تاجه التي أخفت هشاشته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلى حينه. ثم كانت «البيروسترويكا» بقيادة غورباتشوف التي أرادت إنقاذ النظام من خلال إدخال بعض الليبرالية إلى النظام المغلق. وبدلاً من الإنقاذ، سرعت البيروسترويكا من انهيار النظام وتفكك الإمبراطورية السوفييتية، ربما لأنها تأخرت كثيراً، أو لأن النظام كان عصياً على الإصلاح، وأي محاولة في هذا الاتجاه لا بد من أن تؤدي إلى الإنهيار والتفكك المذكورين.
ربما هو تكرار لما سبقت إليه الإمبراطورية العثمانية، حين بدأت إدخال بعض الإصلاحات إلى نظام الدولة بمحاكاة الحداثة الأوروبية. ليس للمصيرين المتشابهين أن يفاجئانا. فكما أدت الإصلاحات العثمانية إلى تفكك الإمبراطورية وانهيار الدولة، ثم انقاذ مصطفى كمال بقاياها بـ»ثورته» فأقام دولة تركيا الحديثة بنظام دكتاتوري فردي فظ، أدت إصلاحات غورباتشوف إلى انهيار النظام وتفكك الإمبراطورية، وقيام دكتاتورية بوتين الفظة.
تسارع إيقاع التاريخ منذ انهيار الإمبراطورية السوفييتية، وصولاً إلى لحظة تقاطع لافتة بين مصيري الامبراطوريتين الجارتين: من البوابة السورية ستعود روسيا بوتين إلى ساحة السياسة الدولية ذات القطبين، أو هذا ما يتخيله أتاتورك الروسي أو يأمله، وذلك بحماية النظام الكيماوي في دمشق من السقوط. ومن البوابة الكردستانية يريد بوتين توسيع نفوذه الإقليمي شرقاً. فروسيا هي الدولة «العظمى» الوحيدة التي لم تعلن موقفاً ضد الاستفتاء، وإن كانت كررت، في تصريحاتها الرسمية، تأكيدها على وحدة وسيادة العراق كلازمة دبلوماسية لا بد منها للحفاظ على علاقات طيبة مع بغداد وطهران. وهناك صفقات نفطية كبيرة بين الروس والاقليم تشي بأن روسيا تسعى لمنافسة الولايات المتحدة على تأمين مظلة حماية للإقليم في مواجهة تحديات الدول المجاورة. سبق ذلك «تمرين عملي» في تنافس الدولتين على حماية مناطق نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سوريا. أبعد من سوريا والعراق، وهما من تركة الرجل المريض العثماني، اشتبكت روسيا بوتين مباشرةً مع تركيا نفسها، وريثة الدولة العثمانية، فتمكنت من لي ذراع أردوغان وتطويعه في الصراع السوري، وصولاً إلى اندراج أنقرة في تفاهم ثلاثي روسي – إيراني – تركي على حل المشكلة السورية وفقاً لمنظور موسكو وطموحاتها. ويمكننا أن نتوقع أن الفورة الحماسية لأردوغان ضد الإقليم الكردستاني، وتهديداته له بالخنق والتجويع، كانتا على طاولة المباحثات في زيارة بوتين الأخيرة لأنقرة، ولم يرشح عنها شيء إلى الإعلام. ترى هل سيتمكن بوتين من لجم الاندفاعة التركية الصاخبة ضد إقليم كردستان، كما لجم طموحاتها التوسعية في سوريا من قبل؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.
بعيداً عن هذه المصائر التاريخية للامبراطورية الروسية ـ السوفييتية، بتحولاتها الدراماتيكية، لنلق نظرة على مصائر الشيوعية ومعتنقيها في منطقتنا والعالم. فمع انهيار تجربة البيروسترويكا، دخلت الشيوعية عبر العالم في أزمة بحث عن أفكار جديدة من شأنها إنقاذ العقيدة الشيوعية وإعطائها ملامح جديدة تستوعب التطورات الواقعية. وهكذا انتشرت، في كل مكان، دعاوى لبناء «يسار جديد» يرث ما راكمته التجربة السابقة، فلا تذهب هدراً تضحيات جسام قدمتها التجارب السابقة على دروب الإشتراكية والشيوعية.
ثم انطفأت تلك المناقشات، بصورة تدريجية، فشهدت التيارات الاشتراكية وتلويناتها اليسارية الأوسع تحولات إيديولوجية، مقابل بقاء «نواة صلبة» حافظت على هويتها اليسارية في مواجهة التيارات الإيديولوجية الأخرى. هذه النواة الصلبة وجدت نفسها، في ثورات الربيع العربي، في موقع المدافع عن أنظمة دكتاتورية متوحشة تعفنت في إقامتها المديدة في السلطة، بدعاوى غريبة من نوع عداء هذه الأنظمة المزعوم للإمبريالية، أو علمانيتها المزعومة في مواجهة تمردات إسلامية. ظلت هذه النواة الصلبة لليسارية القائمة على الهوية، مخلصة لعقائدها الموروثة التي باتت، بمرور الزمن وتحولاته الكبرى، منفصلة تماماً عن الواقع بكل غناه وتعقيداته. أي أنها أصبحت عقائد رجعية بالمعنى الماركسي للكلمة: سواء بإحالتها إلى زمن مضى، أو بدفاعها المستميت عن أنظمة رجعية تقاتل شعوبها بكل شراسة.
ولعل الأكثر طرافة في أمر «اليسار الرجعي» اليوم هو استعادته لموسكو الامبريالية كما لو كانت موسكو لينين في عشرينيات القرن الماضي!
المصدر : القدس العربي