أحيت أسبوعية الـ«إيكونوميست» البريطانية الذكرى المئوية للثورة الروسية على نحو مبتكر، أو غير تقليدي في أقلّ تقدير؛ إذْ كرّست الغلاف لصورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن في ثياب القياصر، موشحاً بنياشين مختلفة تشير إلى علائم سلطاته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، مع عبارة تقول: «ولادة قيصر جديد». وأمّا افتتاحية العدد، التي تستهل موضوع الغلاف عادة، فقد استنتجت أنّ بوتين، بعد 17 سنة على تولّيه منصب الرئاسة للمرّة الأولى، يقبض على أعنّة السلطة أقوى من أيّ وقت مضى؛ وأنّ «الإصلاحيين الليبراليين في موسكو، مثل المحافظين التقليديين، يتحدثون عن السيد بوتين بوصفه قيصر القرن الحادي والعشرين».
قبل غلاف الـ«إيكونوميست»، كان مئات من أنصار أليكسي نافالني، أبرز معارضي بوتين (وهؤلاء باتوا فئة نادرة تماماً، وشبه منقرضة)، قد تظاهروا في مدينة بطرسبورغ، مسقط رأس بوتين، وفي تاريخ تقصدوا أن يكون مزدوج الدلالة (7 تشرين الأول/ أكتوبر، الذي يصادف أيضاً عيد ميلاد سيد الكرملين)؛ وكان هتافهم الأبرز: يسقط القيصر! صحيح أنّ نافالني عُرف بنقده اللاذع لدائرة الفساد التي يرعاها بوتين شخصياً، وللقبضة المحكمة التي يفرضها أعوانه على قطاع النفط، وإجراءات مصادرة الحريات العامة والتضييق على الصحافة، وسوى هذه وتلك من القضايا التي تصنع برامج أية معارضة في أيّ نظام ديمقراطي؛ أو، في النموذج الروسي، من حيث اشتغال صناديق الاقتراع وأنظمة عمل البرلمان، على الأقلّ. إلا أنّ الصحيح المقابل، والذي يصنع المفارقة، كان اقتصار خطاب نافالني على تفضيح الأوتوقراطية البوتينية، بما يشير إلى أنّ الصفة القيصرية طرأت مؤخراً فقط، من جانب أوّل؛ وأنها تبدو مرشحة للانقلاب إلى عنوان بارز في خطط المعارضة للانتخابات الرئاسية، السنة المقبلة، من جهة ثانية.
فإذا استذكر المرء وقائع المضايقات التي تعرّض لها نافالني، والتي تبدأ من الإحالة إلى القضاء بتُهم الرشوة والاختلاس، ولا تنتهي برشق وجهه بسوائل حارقة أفقدت عينه اليمنى 80٪ من قدرة الإبصار؛ فإنّ هذا التصعيد الجديد في نبرة معارضة الكرملين قد يشير إلى إدراك الرجل بأنّ قبضة بوتين أخذت تتراخى، وأنّ رياح انتخابات 2018 قد يصحّ اغتنامها اليوم، قبل الغد. المشهد الاقتصادي الداخلي، في ضوء انحطاط الناتج القومي الإجمالي وتدهور القيمة الشرائية للروبل وهبوط أسعار النفط، صارت اليوم عناصر معاكسة لصورة بوتين/ المنقذ، أو بوتين/ القيصر القومي. وأمّا المشهد الخارجي، فإنّ إعادة موسكو إلى دائرة التأثير في العلاقات الجيو ـ سياسية الدولية أخذ ينتج مفاعيله المضادة؛ إذْ ما الذي يقنع المواطن الروسي بأنّ بسط نفوذ موسكو في أوكرانيا وسوريا، مثلاً، يوازي عجز الروبل عن تأمين الحدود الدنيا للعيش الكريم؟
بهذا المعنى فإنّ صفة القيصر لا تقتصر على ارتداء ثياب القياصرة، بل تستوجب أيضاً إعادة إنتاج مجموعة ــ وثمة من يتحدث عن كثير، متعدد، معقد ــ من أشباح الماضي؛ ذاتها التي جعلت البلاشفة من رفاق فلاديمير إيليتش لينين يفلحون في تجاوز ثورة شباط (فبراير)، ثمّ إسقاط النظام القيصري القديم بأسره استطراداً، في مثل هذه الأيام قبل 100 سنة. ففي العميق من بواطن الخلفية الاجتماعية ـ الإيديولوجية الراهنة في روسيا، تحتدم معركة حامية الوطيس بين استقطابين عملاقين تتمحور من حولهما، وتلتقي فيهما، أو على النقيض منهما، جملة التيارات السياسية والعقائدية؛ التي يمكن أن تبدأ من النوستالجيا الشيوعية والإشتراكية الإصلاحية و«اشتراكية السوق» وليبرالية واقتصاد السوق، ولا تنتهي عند النزعات القومية المعتدلة أو تلك المتطرفة. وهذه معركة تحفّز، وتُبلور أكثر فأكثر، تيّارين مركزيين باتا جزءاً لا يتجزأ من الفسيفساء المعقدة التي رسمت قسمات شعوب أوروبا الشرقية ما بعد الحرب الباردة: الاستقطاب الإستغرابي (نسبة إلى الغرب)، والاستقطاب الأورو ـ آسيوي (نسبة إلى موقع روسيا الفريد على التخوم الحاسمة لقارّتين شهدتا وتشهدان أعمق الصراعات الحضارية على مرّ التاريخ).
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذين التيارين لم يولدا على حين غرّة، والباحث الروسي فلاديمير بيلينكين رصد الأجنّة الأولى لصعودهما منذ السبعينيات، في قلب الأوساط الإيديولوجية والفكرية القريبة من المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي والأجهزة البيروقراطية العليا، فضلاً عن جهاز استخبارات الـ KGB. وغنيّ عن القول إنّ هذين الاستقطابين كانا يتناميان في حاضنة مناسبة للغاية، أبرز عناصرها هي التالية: 1) قوّة عظمى تملك ثاني ترسانة نووية في العالم، ولكنها تنزلق رويداً رويداً إلى مصافّ المقاييس التقليدية لدولة نامية؛ و2) اقتصاد نهض على التصنيع الثقيل، ولكن أساسه الوطني صار يعتمد على تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغذائية المصنّعة، فتفاقم ارتهانه للرأسمال الأجنبي والاستثمارات متعددة الجنسيات؛ و3) تباين صارخ في التوزيع الاجتماعي للثروة القومية، وشروخات حادة بين الأغلبية الأكثر فقراً وبؤساً، والأقلية المنعمة المنشطرة بدورها إلى كومبرادور رأسمالي متحالف مع الشركات الغربية العملاقة، وقطاعات طفيلية متحالفة مع المافيات الداخلية ومجموعات الضغط القومية.
المرتكز العقائدي للاستقطاب الاستغرابي الروسي بدأ من إعادة النظر في الثورة الروسية والطور السوفييتي بوصفهما إجهاضاً للمسار التاريخي الكوني الطبيعي، الذي كان سيفضي بروسيا إلى النظام الرأسمالي، كما هي حال أوروبا والغرب إجمالاً. من هنا دعا هؤلاء إلى تصحيح الخطأ التاريخي الفادح، والعودة بالاقتصاد السياسي والنظرية الاجتماعية إلى الينبوع: إلى آدم سميث ومفهومه للمجتمع المدني المنظّم ذاتياً، وإلى مدرسة شيكاغو الاقتصادية في أقصى تمثيلاتها اليمينية (جورج شولتز، وأضرابه). وبالطبع، لا مجال عند هؤلاء للتفكير في الديمقراطية بمعزل عن الليبرالية والسوق المنفلت من كل عقال، ولا مجال أيضاً لأية عقلنة في اقتباس الأنساق الثقافية السائدة في النماذج المعاصرة من المجتمعات الرأسمالية. وهكذا كان يتمّ استيراد الليبرالية والثاتشرية والريغانية وما بعد الحداثة، تماماً كاستيراد سيارات المرسيدس وعنف شوارع لوس أنجليس والبغاء المخملي…
ولكن خطّ التدهور الموضوعي الملازم لهذا الانفتاح البربري كان كفيلاً باستيلاد القطب الأخلاقي النقيض له، أي ذاك الذي يدغدغ «روح روسيا» وماضيها الإمبراطوري العريق. وهكذا فإنّ دعاة هوية روسيا الأورو ـ آسيوية لم يتورعوا عن وصف الحضارة الغربية بـ«الظاهرة الكولونيالية الإثنو ـ ثقافية»، التي تستخدم الاقتصاد والسياسة والثقافة والجيوش لإخضاع الحضارات الأخرى وإجهاض مسارات تطورها الطبيعية. أكثر من ذلك، وبدل الذهاب إلى آدم سميث، توقف الأورو ـ آسيويون عند الأنثروبولوجيا الثقافية لكي يشددوا على أنّ الروس جزء رائد في عائلة الشعوب التي حكمت وجودها، وصنعت حضارتها، قيمٌ أخرى مختلفة عن تلك التي أشاعتها وفرضتها أوروبا «الرومانية ـ الجرمانية». هنا، تحديداً، كانت شخصية بوتين تأخذ سمة القيصر المنقذ، وكانت جاذبيته تتضخم كلما استعاد نزراً من رفعة روسيا عسكرياً، وكلما ردّ مقداراً من الاعتبار إلى نفوذها الدولي؛ حتى إذا اقتضى الأمر نبش عظام القياصرة، للعرض في سوق الفخار القومي!
وعلى نحو ما، وكما تقرّ أسبوعية الـ»إيكونوميست»، سوف يواصل بوتين إعادة إنتاج المآزق التي واجهت بطرس الأكبر وألكسندر الثالث ونيقولا الثاني؛ والمتمثلة في السؤال/ المعضلة: هل يتوجب على روسيا أن تحدّث ذاتها طبقاً للمقاييس الغربية، فتنتهج بالتالي نظام الحقوق المدنية والحكم التمثيلي؛ أم تتقوقع داخل ما وضعها فيه قيصر القرن الحادي والعشرين، حتى إذا كان سيحصد ولايته السادسة والأخيرة دستورياً، بحيث ينفتح سؤال الخلافة على مآزق أشدّ تعقيداً وأسوأ عاقبة؟
المصدر : القدس العربي