تخرج الأمور، في منطقتنا، إلى العلن، فقط بعد طبخها مطولاً في الخفاء. فنفاجأ بها في كل مرة، وتأخذنا التحليلات في مختلف الاتجاهات، إلى أن تتوالى «تداعيات الحدث» كما يقال، فتكشف ما كان خافياً بقدر ما تريد الجهات الفاعلة الكشف عنه. في حين أن الحروب تطحننا غير عابئة بآلام البشر ودمائهم، لتغيير «موازين القوى» وإعادة توزيع عوائدها السياسية بما يلائم مصالح مشعليها.
هكذا فوجئنا باستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وبالصاروخ الحوثي على الرياض، في الوقت الذي كان اعتقال أمراء العائلة الحاكمة ووزرائها يجري على قدم وساق في إطار «مكافحة الفساد».
تمت قراءة استقالة الحريري، غالباً، في سياق الانقلاب «السلس» داخل العائلة السعودية الحاكمة، أو في إطار المواجهة الأمريكية ـ السعودية ضد إيران، نازعين الرجل وما يمثل من سياقه اللبناني الداخلي، وثمة من اعتبروها خطوة متأخرة لرفع الغطاء السني عن هيمنة حزب الله المطلقة على لبنان.
والحال أن كلا القراءتين تؤديان إلى المؤدى نفسه، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن لبنان مفرغ الداخل أصلاً ما دام حزب الله المهيمن على الحكومة والرئاسة والبرلمان منخرطاً في صراع إقليمي خارج حدوده، بوصفه أداة لأجندة دولة أجنبية هي إيران، ويساهم في تدفق اللاجئين السوريين الفارين من جحيم معاركه في سوريا، كما في تسلل الإرهاب القاعدي والداعشي إلى لبنان.
بطريقة ما، ومن مكان ما، يبدو أن قراراً صدر بإنهاء هذا الوضع الشاذ الذي يعيشه لبنان، أو تحجيمه: حزب إرهابي يخوض حرباً خارج حدود لبنان لمصلحة دولة أجنبية، ومشارك في الحكومة، بل يهيمن عليها، في وقت واحد. هذا فضلاً عن أنه حزب مذهبي لا يمكنه، بوصفه هذا، أن يحتكر الحكم في لبنان على طريقة الدكتاتوريات العسكرية أو الأنظمة الشمولية. وإن كان يسلك مسالك الأخيرة، في أحط مظاهرها، داخل البيئة الشيعية، كما رأينا، قبل أيام، في الطريقة المهينة التي فرض بها الاعتذار على أصحاب البسطات الذين شتموا «سماحة السيد» علناً بأقذع الشتائم. بل قد يصح الذهاب بعيداً في الربط بين حادثة حي السلم واستقالة الحريري، بمعنى تكامل التطويق المعنوي للحزب الإيراني في لبنان، من داخل ومن خارج، ليس من منطلق نظرية المؤامرة، بل بناء على وصول المشروع الامبراطوري الإيراني إلى أقصى ما يمكنه الوصول إليه، بما يحتم بدء مرحلة انحساره وتدهوره.
وإذا كان إعلام الممانعة قد ركز على الدور السعودي في استقالة الحريري، فهاجمه معبراً عن صدمة من سحب البساط من تحت قدميه على حين غرة، فقد أظهر الأمين العام لحزب الله «ضبطاً للنفس» لم نعهده فيه، داعياً للتهدئة وممارساً لها، بهدف امتصاص الصدمة قبل التفكير في الخطوة التالية.
فقد جاءت استقالة الحريري في وقت يشتد فيه الضغط الدولي على الحزب، من خلال عودة الأمريكيين إلى إبراز صفته الإرهابية، وتشديد العقوبات عليه، وملاحقة مصادر تمويله. وكل ذلك في إطار الاسترتيجية الجديدة لدونالد ترامب في مواجهة إيران، الأمر الذي ظهرت مفاعيله في العراق أيضاً ضد قادة الحشد الشعبي الثمل بانتصاراته في كركوك وسنجار.
قد لا تشكل الاستقالة، بحد ذاتها، ضربة موجعة لحزب الله وحلفائه، ومن ورائهما إيران، ما لم تكن في إطار سلسلة من الخطوات المنسقة محلياً واقليمياً ودولياً. وهذا ما لا نعرف عنه شيئاً في الوقت الحالي. أي هل هناك خطة متكاملة لإسقاط حزب الله من حكم لبنان؟ وكم يمكن لخطة مماثلة، إذا وجدت، أن تكلف لبنان أمنياً واقتصادياً؟ فمن المرجح أن الحزب لن يستسلم أمام الضغوط، ما لم تقرر طهران «التهدئة» الاضطرارية مع خصومها في واشنطن أساساً، وعبر الإقليم تالياً. أي تجرع كأس السم الشهير على ما وصف الإمام الخميني موافقته على إيقاف الحرب مع العراق في 1988. وبالنظر إلى عدم اكتمال نضوج «الحل الروسي» في سوريا، على رغم كل استعجال بوتين، فلا يمكن توقع قبول خامنئي بتجرع تلك الكأس في وقت قريب.
هناك انتخابات نيابية مقررة، في الربيع القادم، في كل من لبنان والعراق. وإذا كان حيدر العبادي قد وضع تحت ابطه «انتصار» جيشه وحشده الشعبي على قيادة إقليم كردستان، ضمانة لفوز يشتهيه في الانتخابات العراقية، فالتوتر المتوقع في لبنان ما بعد الحريري لن يسمح لحزب الله وحلفائه بتمرير الانتخابات أصلاً، ناهيكم عن الخروج منها بنتائج لمصلحتهما.
أما في سوريا، فما يحول دون توافق أمريكي ـ روسي، لا مفر منه، على تسوية روسية، ليس الخلاف على من يحكم الرقة أو دير الزور بعد داعش، أو على بقاء بطل الكيماوي والبراميل البدائية القاتلة في المرحلة الانتقالية أو بعدها، بقدر ما هو الوجود الإيراني في سوريا من خلال حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية الأخرى متعددة الجنسيات. هذا الوجود الذي لا تقبل به واشنطن، ولا تستطيع موسكو الاستغناء أو التخلي عنه.
في هذه الأجواء من تصعيد الصراع الموصوف بـ»الشيعي – السني»، الله يحمي اللبنانيين.
المصدر : القدس العربي