عيناه الزائغتان، وابتسامة خجولة لا تحمل الكثير، تراوح مكانها بين شفتيه، والكرسي المتحرّك الذي يجلس عليه ماداً قدمه المصابة بثلاث طلقات رصاص، بينما استقرت رصاصتان إضافيتان في ظهره، في حين نال زميله في “العملية” نصيبا أكبر من الطلقات أودى بحياته، في تلك المعركة القصيرة غير المتكافئة التي نشبت بينهما وبين رجال شرطة السياحة والحراسة المكلفين بتأمين أحد الفنادق في مدينة الغردقة على ساحل البحر الأحمر جنوب القاهرة.
كان هذا كله دافعاً كافيا يلفت نظري إليه، وهو منزوٍ في أحد أركان المبنى الضخم لنيابة أمن الدولة العليا في شرق القاهرة، حيث كان في انتظار دوره للمثول أمام المحقق في القضية المتهم فيها بالانتماء لتنظيم إرهابي، وبحيازة أسلحة وبمحاولة ارتكاب عدوان إرهابي على سائحين أجانب في أحد الفنادق في الغردقة، ما أسفر عن إصابات غير خطيرة لحقت ببعضهم.
بعد تعارف قصير، وفق ما سمحت به ظروف المكان، وقليل من الحديث العام عن إصابته ووضعه الصحي لكسر جمود عدم المعرفة السابقة، تجاوب الشاب النحيل الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين عاما بسرعة أدهشتني، وأخذ يحكي قصته وكيف ارتكب جريمته، ودوافعه في ذلك كله، وكيف أصبح نموذجاً مثالياً لما يسمى “الذئب المنفرد”. إنه لا يرتبط بأي إطار تنظيمي من أي نوع، وليس له قائد يأخذ منه تعليمات، تشرب بأفكار أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني وأبو محمد المقدسي وغيرهم من “منظري” التنظيمات المتطرّفة وقادتها، بمتابعة مواقعهم الإلكترونية وصفحات تنشر أفكارهم. وكانت الوسيلة الأكثر تأثيراً فيه، حسب قوله، مقاطع الفيديو التي تصدر عن تنظيم داعش، وتنتشر عبر مواقع للتواصل الاجتماعي عن أخباره عن “إنجازاته” في سورية أو العراق أو ليبيا، وأيضاً فيما تسمى “ولاية سيناء” في مصر.
لم يطرف لعينه جفن، ولم تظهر عليه أي علامات ندم على ما آل إليه حاله ومستقبله وحكم الإعدام الذي ربما ينتظره، وانطلق “الذئب” يقول: “كان لا بد أن أفعل شيئاً، لم أتمكّن من السيطرة على انفعالاتي بما أشاهده ليل نهار من عدوان إجرامي على المدنيين الآمنين العزّل، خصوصاً في سورية، كنت لا أنام الليل، وأنا أسترجع مشاهد الأطفال الذين يموتون تحت قصف الطائرات الروسية والبراميل المتفجرة لشبيحة بشار الأسد، وكنت أتابع ما تبثه مجلة دابق ووكالة أعماق الإخبارية التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، وكذلك الإصدارات المصوّرة لعملياتهم في سورية والعراق والأراضي التي يسيطرون عليها، .. وأجد فيه عزة وانتصارات كنت أحلم بها، كيف نستعيد مجدنا ولا نكون مطيةً للكافرين والمستبدين، يجب أن يكون عندنا كرامة وأن يكون الدين رايتنا الوحيدة، ولا نتردد في ذلك مهما كان الثمن”.
سألته عن التأصيل الشرعي فقهياً وفكرياً لما قام به، ومن أين يستمد علمه وفقهه، بدا السؤال مباغتا له، توقف عن استرساله، ثم قال: “لا أحب القراءة ولا أحسنها ولم أقرأ أي كتابٍ تقريباً في حياتي، غير كتب المعهد الذي كنت أدرس فيه الفندقة، أنا وزميلي الذي شاركني العملية في الغردقة وقتل فيها، حتى قراءتي للقرآن فيها ضعف شديد وتقصير أعترف به. قبل ثمانية أشهر، كانت مواظبتي على الصلاة متقطعة، فقد كنت شاباً عادياً، أعيش في منطقة شعبية في القاهرة. والدي عامل بسيط ولي أخوان أصغر مني، لم يعرفوا عني شيئا، ولا عن اتجاهاتي أو نيتي في تنفيذ شيء، ولا عن ارتباطي بالدولة الإسلامية، لا هم ولا أمي التي أحزن كثيراً لأنها تتألم بسببي، ولم يكن يلفتني أمر في موضوع مثل الجهاد وقتال الكافرين، كان الحماس لفعل شيء للمظلومين محرّكنا الوحيد، ووثقنا في علم القادة في “الدولة الإسلامية” ومعرفتهم، فنحن أصغر من أن نستخلص أحكاماً، لكن أمثال “الخليفة” البغدادي هم أصحاب العلم الذين يعرفون، ونحن نتبعهم. أنا وزميلي استغلينا دراستنا للفندقة وقررنا الانتقام من الروس “الكفار”.
كنا نتردد على بعض الفنادق للتدريب في أثناء الإجازة الصيفية، في هذه المدينة السياحية الشهيرة، ومن خلال معرفتنا البسيطة بخريطة الفنادق وكثافتها اخترنا ما توقعنا أنه الأكثر اكتظاظاً بالسائحين الروس، أخذنا سكينا طويلاً ومسدس صوت، كانت هذه هي أسلحتنا في العملية. لم تكن كافية، حين هجمنا وصحنا الله أكبر إلا في إحداث إصابات متوسطة في ثلاثة من السائحين، وإصابة أخرى في يد رجل شرطة، تم إطلاق النار علينا وأصبنا، لكننا أرعبناهم وأوصلنا رسالتنا”. هكذا قال، وكذلك يظن، وعلى هذا لم يزل في سجنه رهن المحاكمة.
وقائع هذا اللقاء الكاشف، والذي لم يكن الوحيد من نوعه مع عناصر متطرّفة على هذه الشاكلة، جرت قبل أشهر من التفجير الإجرامي الذي استهدف المصلين في قداس أعياد الميلاد في ديسمبر/ كانون الأول 2016 في الكنيسة البطرسية في القاهرة، واللصيقة بالمقر البابوي للكرازة المرقسية الأرثوذكسية، وأسفر عن مصرع حوالي 30 شخصاً، وأعلنت ما تسمى الدولة الإسلامية مسؤوليتها عنه، من دون تحديد إن كان هذا من أفعال الذئاب المنفردة أم بتخطيط التنظيم نفسه وترتيبه، إلا أن اللافت أن بيان إعلان المسؤولية هذا تم توقيعه باسم “الدولة الإسلامية في مصر”، وليس الاسم المعتاد لما تسمى “ولاية سيناء في الدولة الإسلامية”، ما يعني أن التنظيم قرّر تمديد انتشاره في مصر كلها، ثم أعقبه تهديد صريح بحملةٍ منظمة تستهدف المسيحيين في مصر، حيث ظهر تسجيل مصوّر لرجل يدعى أبوعبد الله المصري، يدعو فيه إلى تحرير القاهرة وإطلاق سراح المعتقلين، ومهدّداً بمزيد من السيارات المفخخة والتفجيرات، وأن الأقباط هم الهدف الأول والصيد المفضل، على حد زعمه.
توالت بعدها الأعمال الإجرامية التي امتدت بالفعل إلى المدن المصرية في الدلتا وصولا إلى تفجيرات 9 أبريل/ نيسان 2017 في الكنيسة المرقسية، أعرق الكنائس الأرثوذكسية في العالم، عندما كان بطريرك الأقباط الأرثوذكس على رأس المصلين في قداس أعياد الزعف، لم يصب بسوء، وسبقه بقليل انفجار آخر في كنيسة مارجرجس في طنطا في أثناء الصلاة، وأودى الانفجاران بأرواح فاقت الأربعين قتيلا، ونحو مائة جريح.
يمثل هذا التركيز على الجرائم الداعشية في مصر تغيراً مهما في خريطة الفعل للتنظيم المذكور، لم يتوقف خلالها عن جرائم أخرى في عواصم عديدة، منها لندن وبرلين واستوكهولم وغيرها، لكن الأهم أن التعامل مع التنظيم وأفكاره وعناصره لم يزل يراوح مكانه في دائرة محاولات الضبط الأمني، في حين أن الأبعاد السوسيولوجية والسياسية والعقائدية المهمة غائبة تماماً، فبينما تخوض جيوش معارك مع التنظيم هذا في العراق وليبيا وسورية، تخوض أجهزة الأمن وحدها أيضا معركة مع عناصر التنظيم في بقية العواصم. ووفقا للمفاهيم التي تحرّك تلك الذئاب النهمة، فلن تفلح معها حلول تعتمد على تصفيتها أو القبض عليها فقط، حيث هؤلاء الشباب تحرّكهم، في أحيان كثيرة، طاقات غضب يصل إلى درجة عدمية مفزعة، وحيث الأفق المسدود سياسياً واقتصادياً، وانعدام الأمل في المستقبل يجعل الخيالات التي تلوح في آفاقهم نتيجة الأفكار التي يلتقطونها من الرسائل الداعشية، هي سبيل الخلاص لهم من دنيا ضاقت عليهم، ولم تمنحهم فرصة للتحقق والوجود، فليس هناك عمق فكري في الخطاب الداعشي يمكن مناقشته على نطاق واسع، والمفاهيم التي يصدّر من خلالها العنف كلها مصمطة وغير مركبة لا تحتمل إلا الأبيض أو الأسود، وهذا خطابٌ يجد رواجاً عند من يبحث عن خلاص سريع من واقع مأزوم.
على سبيل المثال، ضاعفت زيادة معدلات الفقر والبطالة ووقف الحال المعاناة على قطاعات واسعة جداً من المجتمع، وشجعها على التعبير العنيف، لأنه ليس لديها ما تخسره. وعلى حد تعبير أحد أساتذة العلوم السياسية إن سن المشتبكين مع الشرطة في الشارع يقل يوماً بعد يوم، ولم يتعدّ بعضهم الثانية عشرة، وهؤلاء غير معنيين بأي حوار، وهم يخافون من الحياة أكثر مما يخيفهم الموت، لأن أحداً لا يهتم بهم.
رد الفعل الفسيولوجي الطبيعي لأي جسم حي، حينما تسد فيه الشرايين والأوردة، فإن الدم لا يتوقف فيه عن الجريان، وإنما يسلك ما تسمى الطرق الجانبية، والتي يتدفق فيها الدم معبراً عن حياة ذلك الجسد، وكذلك المجتمعات كونها جسداً اجتماعياً حياً، إذا سدّت المنافذ والطرقات الرئيسة فيها، فتحت لها طرق ومنافذ جانبية، ليتدفق منها نبض الحياة الاجتماعية. وبالتالي، التحول نحو استخدام القوة الذي يصل للعنف هو استجابة طبيعية عند قطاع من المجتمع حدث له ما يسمى في علم الاجتماع “اغتراب” قيمي ونفسي، كانت آمال التغيير جديرةً بتجسيره وعلاجه، لكن ما جرى بعدها أعاد الأمور إلى حالة ارتدادية في السلوك العام والمجتمعي. وانتشرت الذئاب تعوي في كل طريق تنزف عليه دماء الأبرياء كل يوم وتزهق أرواحهم هدراً، وينكد عيشهم كدراً.
المصدر : العربي الجديد