كنا ننتظر شهر رمضان، فقد كان يمنحنا، نحن الصغار، وقتاً أطول للعب خارج بيوتنا الصغيرة في الحارات، وعلى التلال المحيطة بمخيمنا. وفوق ذلك، كان رمضان كريماً معنا، فكبارنا كانوا يغفرون لنا شقاواتنا غير المؤذية، ويغدقون علينا حناناً ورحمةً من نفوسهم السابحة بالتقوى والإيمان البسيط.
كان كل شيء مختلفاً ومؤتلفاً مع ما عاشه هؤلاء الناس من مأساة الإقتلاع من مكانهم الأصيل، ما جعل قلوبهم المنكسرة بالحنين دائمة الحضور في منعرجات المحبة والتسامح. كانت آمالهم كبيرةً، وخوفهم كبيراً، فلم يكن في قلوبهم متسع من الوقت للقسوة. و
كان رمضان يزيدهم رقةً ووداعة، وكنا، نحن الصغار، مستفيدين من هذا كله. كان صخبنا، قبل لحظة الإفطار، يسكن عندما تبدأ الأفواه في التهام الطعام، فلا تسمع من شبابيك البيوت غير طقطقة الملاعق والصحون وقرقعة الطناجر، وربما، في أحايين كثيرة، خناقات الأولاد، وتنافسهم على الطعام، إذا كانوا صائمين. لم يسألنا أحد ذلك السؤال المحرج، إن كنا صائمين أم مفطرين، ولم يهتم لشأن الآخرين أحدٌ، أو رأى في نفسه قيّماً على أحد، فهذا شأن خاص لكل فرد الحرية فيه.
استمر الزمن على هذه الحال إلى منتصف الثمانينات، ولم يكن يوجد في مخيمنا الاّ ثلاثة مساجد على الأكثر، ثم انتشرت المساجد، وانتشر الدعاة والجماعات، وكان لمعتقل أنصار الذي أقامه جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان للرجال من الفلسطينيين واللبنانيين بالغ الأثر في ذلك الانتشار، وكان لإقامة الجمهورية الإسلامية في إيران أثر مشجع للطامحين بالسلطة الدينية. وفي يوم من أيام ما بعد انسحاب إسرائيل من مناطقنا، كان لرمضان في مخيمنا موعد مع الدماء والقتل، حين أقدم أميرٌ من أمراء أولى الجماعات الإسلامية الناشئة حديثا على إطلاق النار من مسدسه الحربي في فم شاب مراهق، كان يجهر بتدخين سيجارة في وسط الشارع الرئيسي في المخيم، فأرداه، وكأن الأمر لا يعني أحداً، وكأن الله كان حاضراً يأمر الأمير بالقتل.
من يومها، تضخمت أصوات مكبرات الصوت في المساجد، وانتشرت الملابس الشرعية الأفغانية بين الرجال، وإنتشرت الحجب والبراقع والنقب في شوارعنا، وصرنا لا نعرف الطرقات، واختفت أسماء الحارات القديمة، لتنتشر المربعات الأمنية للجماعات المختلفة، وصار رمضان شهراً للخوف والحذر والهيبة المروّعة، وغابت شقاوة الصغار في الحارات والتلال، واتسعت أبواب المساجد لهم ولخوفهم وارتعاشات قلوبهم الصغيرة.
انزرع الخوف في قلوب الفلسطينيين، بعد أن كانت قلوبهم عامرةً بالمحبة والأمل، وفقدوا الضوء القديم، وتاهوا في الرؤى بين العصبية الدينية والمرجعيات الجديدة التي هيمنت على عقولهم والإيمان البريء الذي عرفوه قديماً، لأن بلادهم المفقودة كانت تصقل إيمانهم بكل ما تحمله ذكرياتهم حول الهواء النقي والتراب الرطب الذي تجد فيه الروح ضالتها، حين تضيق الدنيا، ويمسك بأثواب الآخرة من لا يدرك كنهها وبساطة الدرب إليها.
وها نحن اليوم في فلسطين، كما في الشتات، لا ندري إلى أين نحن سائرون، فقد نفهم أن يعيش الفلسطينيون في غزة كل هذا الكبت، وانعدام الحرية تحت حكم ديني، يتمسك بالشريعة التي لا يفهمها أحد غير الحكام هناك. ولكننا ندهش من أن يصدر النائب العام في رام الله قراراً بالحبس لكل من يجهر بإفطاره في رمضان، عقاباً لهم على الإساءة لمشاعر الصائمين. وقد نسي النائب العام أو السلطة التي عينته نائباً عاماً أن ليس من حقه أن يصدر هذا القرار، فكل ما يخص الدين لا شأن للسلطات الدنيوية فيه، وقد نسي أن في فلسطين مسيحيين، ومن العار أن تطبق عليهم أحكام تزعم شرعيتها. ونحن نرى هذا، نتذكّر أمير القتل في مخيمنا، في ظل الفلتان وتهتّك المرجعية.
المصدر : العربي الجديد