وقّعت روسيا وتركيا وإيران، في شهر يونيو/حزيران الماضي، اتفاقاً لإنشاء “مناطق خفض التصعيد” في سورية، تعتبر روسيا الوسيط والعرّاب في هذه الصفقة، فقد أكد الاتفاق أن المناطق الأربع المعلنة في سورية ليست “مناطق آمنة”، ولكن “مناطق خفض التصعيد” في خطوةٍ أخرى للتمييز عن مفهوم المناطق الآمنة التي كانت المعارضة السورية تطالب بها فترة من الوقت.
لا يوجد تعريف قانوني لمثل هذه “مناطق تخفيف التصعيد” في القانون الدولي، لأن هذه المصطلحات تستخدم على نطاق واسع من المنظور العسكري، بدلا من الخلفية القانونية، وهذا هو السبب في أن شروطها دائماً غامضة، ويمكن أن تُملأ بتعاريف وتفسيرات عديدة؛ وهذا بالطبع مفضّلٌ بالنسبة لروسيا، لأنها تحت اتهامات يومية من المنظمات الحقوقية السورية والدولية، بارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سورية، ضد المدنيين، خصوصاً في حلب.
ويعكس الاتفاق الدور الذي قامت به محادثات أستانة خلال الفترة الماضية، والتي انتهى اجتماعها أخيراً بدون تحقيق أي نتائج تذكر، والتي حاولت روسيا جاهدةً تظهير هذه المفاوضات على حساب مفاوضات جنيف، لتكون “المكان” لمناقشة عملية السلام في سورية، في محاولةٍ لنزع الشرعية عن أي جهودٍ للأمم المتحدة في جنيف، والأهم من ذلك التقاط وتحديد مجموعة المعارضة السورية التي ترغب في التعامل معها.
ادّعت روسيا، خصوصاً بعد معركة حلب، أنها تركّز على فرض وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية، وأحدثت مسار أستانة لخدمة هذا الغرض، جنبا إلى جنب مع تركيا وإيران.
والهدف الأساسي من مفاوضات أستانة هو فرض وقف إطلاق النار، وفق الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين تركيا وروسيا مع نهاية عام 2016؛ لكن ما هو مثير للاهتمام في مثل وقف إطلاق النار هذا أن قوات نظام الأسد لم تحترمه أبداً، فالغارات الجوية لم تتوقف يوما في الغوطة الشرقية، والآن في درعا وغيرها من المناطق الأخرى التي تسيطر عليها المعارضة، كما أنه جرت عمليات تهجير قسري للسكان، لم تتم من قبل بهذا الحجم، كما جرى في حي الوعر في حمص، والمدن الأربع الأخرى، مضايا والزبداني والفوعة وكفريا، حيث أجبر السكان على ترك منازلهم بسبب سياسات حكومة الأسد، كما تم استخدام الأسلحة الكيميائية في خان شيخون في إدلب. والسؤال: إذا كانت كل هذه السياسات والترسانة العسكرية استخدمت في “وقت وقف إطلاق النار”، فما الذي يمكن توقّعه عند عدم احترام وقف إطلاق النار، ويمكننا أن نسأل أنفسنا عن مدى احترام الأطراف هذه الصفقة!
رفضت روسيا الإعلان عن انهيار وقف إطلاق النار هذا، وأصرّت على استمرار محادثات أستانة، على الرغم من لا جدواها، وانتقلت إلى الحديث عمّا تسمى “مناطق التصعيد” في جولة محادثات أستانة في مايو/أيار 2017، كانت الولايات المتحدة حاسمةً في رفض الاتفاق الجديد بسبب إضافة إيران “ضامنا”، فقد ذكر بيان وزارة الخارجية الأميركية: “إن الأنشطة الإيرانية في سورية لم تساهم إلا في العنف، وعدم توقفه، ودعم إيران الثابت نظام الأسد أدّى إلى استمرار البؤس في سورية”. ولم تعلق وزارة الخارجية الأميركية على الإطلاق على مفهوم “مناطق التصعيد” في سورية، حيث انتقد البيان دور إيران، لكنه رحب بأي شيء يمكن أن يساعد في تهدئة العنف في سورية اليوم.
يمكن القول إذاً إن الدور الروسي تغيّر من فرض عملية سياسية إلى شبه إجراءات عسكرية تقوم على تخفيف العنف، مع قناعتها بفشل القيام بأية عملية سياسية في سورية اليوم، فقد كانت روسيا راعيةً، خلال محادثات أستانة في العاصمة الكازاخية، عملية سياسية تقوم على البدء بكتابة الدستور، فقد وزعت على المعارضة السورية المسلحة التي شاركت في المحادثات مسودة مقترحة لدستور جديد لسورية وضعته “لتسريع المفاوضات السياسية لإنهاء الصراع”، وفقاً لمبعوث الكرملين.
والسؤال الذي طُرح حينها: لماذا قرّرت روسيا أن تبدأ من نقطةٍ بالغة الحساسية بالنسبة لأية أمة، فأي دستورٍ لأية دولة إنما يعكس قيمها الأساسية، وبما أن روسيا تكرّر، في كل مرة منذ بدء الانتفاضة السورية في عام 2011، أن الأمر متروكٌ للشعب السوري، وتصر في كل فرصة أن الحل يجب أن يكون سورياً من خلال تسوية سياسية وحصرية من السوريين. ثم كيف تأتي روسيا وتُقدم على صياغة “دستور سوري”، وتسأل السوريين مناقشته والموافقة عليه.
أعد هذا الدستور “خبراء روس”، بعد يومين من المحادثات غير المباشرة بين المعارضة المسلحة السورية وممثلي النظام، من دون أي إشارة إلى وجود اختراقٍ للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع لإنهاء الحرب. ثم فجأة، قرّرت روسيا عدم التركيز على تنفيذ وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية، حيث انتهكته حكومة الأسد كل يوم تقريبا، ولم تعد تركز على بنود الاتفاق بين روسيا وتركيا الذي قبلت المعارضة به، على أمل أن يحدث فرقا على الأرض، من خلال التطبيق الكامل لوقف إطلاق النار، بدل التركيز على ذلك، فضلا عن قضايا أخرى، تشكل أولوية للسوريين اليوم، مثل اللجوء والوضع الإنساني، فإن روسيا قفزت وعملت على صياغة دستور، ووضعته تحت تصرّف الشعب السوري.
مثّل الاقتراح الروسي لدستور “سوري” مفاجأة، لاسيما أن الطريقة التي تم الإعلان عنها خلال محادثات أستانة، وكأنه من أشكال الفرض الروسي على المحادثات، وكون روسيا هي الفاعل العسكري الأكبر في سورية، فمنذ تدخّلها العسكري في سبتمبر/أيلول 2015، أصبحت روسيا المحرك العسكري والسياسي الرئيسي، بحكم انسحاب الولايات المتحدة، خصوصا بعد مجيء الرئيس ترامب الذي طبّق سياسة أميركية انعزالية، مع تركيز وحيد على محاربة “داعش” في سورية.
تعكس قراءة النص الروسي المقترح للدستور في سورية، بكل تأكيد، وجهة النظر الروسية للحل السياسي في سورية الذي تنادي به يومياً من دون الالتزام بمحدّداته على الأرض.
تظهر المسودة المقترحة، والتي قال وزير الخارجية الروسي، لافروف، إن “خبراء روس” أعدوها، أنها مصاغة على صيغةٍ مماثلة تقريبا لدستور الاتحاد الروسي الذي أقر في 12 ديسمبر/كانون الأول 1993، فالديباجة تكاد تكون نفسها تقريباً، والتبويب يحمل السمات نفسها، وتوزيع الصلاحيات بني بناء على صلاحيات المؤسسات الروسية الشبيهة. لكن، ما يجدر التوقف عنده هو كيف ينظر الروس إلى سورية الجديدة التي يقترحونها من خلال دستورهم، خصوصا قضيتي التركيبة التعددية الطائفية والإثنية التي يشير إليها الدستور مراراً، ومركزية السلطات بيد السلطة التنفيذية التي تكاد تكون مكرّرة من مواد الدستور الروسي.
فالدستور الروسي المقترح يقوم على فكرة تعدّدية الشعب السوري، لينتهي إلى مبدأ المحاصصة الطائفية والقومية في المناصب الوزارية، بما يذكّر بأنظمة سياسية شبيهة في لبنان والعراق وإيرلندا الشمالية والبوسنة والهرسك، من دون أن تفلح أيٌّ من الأنظمة السياسية المذكورة، القائمة على مبدأ المحاصصة الطائفية، في ضمان الاستقرار السياسي للنظام السياسي، أو تحقيق النمو الاقتصادي، فهي أنظمةٌ قائمةٌ على الشلل الطائفي، بدل أن تفتح الباب لتحويل النظام السياسي إلى نظامٍ ديمقراطي كامل.
تبدو روسيا اليوم أنها البلد الوحيد الذي يقوم بالمبادرات في سورية، من محادثات أستانة إلى اقتراح دستور جديد، إلى اتفاق خفض التصعيد، ويعكس ذلك كله بشكل ما كيف تحاول روسيا الخروج من سورية، بأقل الخسائر الممكنة، مع المحافظة على بقاء الأسد، بوصفه الورقة الوحيدة الذي يمكن لها أن تضمن مصالحها من خلاله.
المصدر : العربي الجديد