كما جاءت هدية عباس إلى رئاسة مجلس الشعب السوري، في هالة من الصخب والضجيج الإعلاميين، غادرت بالأسلوب نفسه، ولم لا فالمخرج المتذاكي واحد..؟ ففي مجيئها منذ سنة وشهرين، كانت المرأة الأولى في تاريخ سورية الحديث التي تشغل هذا المنصب الرفيع، ما يؤكد علمانية النظام، وتوافقه مع روح العصر ولغته، فهو نصير للمرأة، في وقتٍ تَرْجُمُ فيه داعشُ (العدو الأول للعالم اليوم) النساءَ أحياءً حتى الموت، وفي مشاهد كريهة مقززة.. أما مغادرة عباس فلمخالفتها الديمقراطية التي يحرص عليها النظام منذ خمسين عاماً، إذ هو نظام عصري، لديه برلمان فيه أعضاء أحرار في كلمتهم، وفي تصرفاتهم، لا يخشون في الديمقراطية لومة لائم، لا وصاية على كلمتهم ولا رقابة. ذلك، بالضبط، ما أرادت قوله عملية الإقالة التي استوقفت كثيرين ممن يعرفون مجريات الأمور داخل المجلس المعدود واجهة للديمقراطية، لـكنها مع الأسف “الـديمقراطية المغدورة” منذ الثامن من مارس/ آذار 1963، كما هكذا أسماها الباحث عدنان بدر حلو في كتابه “سورية الخمسينيات.. الديمقراطية المغدورة من عسكر الدولة إلى دولة العسكر”.
يعدُّ مجلس الشعب في سورية بمثابة السلطة التشريعية في البلاد، ولكنه ليس أكثر من رمز لديمقراطية مقصوصة الجناحين، ولنظام القرار فيه منوط بمؤسستين، تتماهى الواحدة منهما بالأخرى، العسكرية والأمنية، فكيف يتأتى لـ 164عضواً من مجموع أعضاء مجلس الشعب السوري (250 عضوا) أن يعتصموا داخل المجلس، احتجاجاً على تصرُّف رئيسته هديّة عباس لإيقافها، كما قال المخرج الألمعي، الأعضاءَ عن متابعة مناقشة موضوع جلستهم، وهو النظام الداخلي.
ولأن الحديث غير مقنع لكل من خبر طبيعة النظام السوري الذي تشرف قمته، بهذا القدر أو ذاك، على تعيين أو إقالة أصغر مستخدم في أي بلدية نائية، جاءت التفسيرات ممن هم على دراية بخفايا الأمور، إذ أوضح أعضاء أن رئيسة المجلس كانت قد “شاركت بجلساتٍ وصفت بأنها حامية، في ملفات كثيرة، منها إلغاء التعتيم “الفيميه” عن زجاج سيارات رجال الأمن والسياسيين والحكوميين.. كما أنها ساهمت، وهذا الأهم، بإلغاء فقرة من مرسوم كان بشار الأسد قد أصدره عام 2007، ويحمل الرقم 30 يتعلق بإعفاء العسكريين من الخدمة، إذ كان هذا المرسوم ينص في الفقرة ح على أنه يحق للقيادة العسكرية العامة إعفاء أيِّ أحد من الخدمة الإلزامية. فشطب هذا الاستثناء، وألغيت الفقرة من المرسوم. ولعلَّ هذا الأمر جرى تحت ضغط حاجة الجيش السوري إلى عناصر جديدة، بعد أن فقد من فقد من ضباط وجنود، ما يعني أنَّ هذا الإلغاء حاجة “وطنية ماسّة..” ولكن نتائج شطب هذه الفقرة لم ترضِ بعض كبار العسكريين، إذ تتطلب إعادة عرض المعفيين من الخدمة العسكرية، مرة أخرى، على لجنة فاحصة للتأكد من “سبب إعفائهم السابق”. وهذا ما قد يثير فضائح فساد نتن في المؤسسة التي تتصدى “للإرهاب”.
ويبدو أنَّ هذه الوقائع تعطي تفسيراً مقارباً للحقيقة، ومتماشياً مع ممارسة النظام الذي اختطه حافظ الأسد خلال فترة حكمه، وسار على خطاه بشار! فالمسألة تتعلق بما تُعرف، في النظام السوري، بقدسية المؤسسة العسكرية، وهيبتها اللتين تأتيان مباشرة بعد هيبة الرئيس وقدسيته، وهي بالطبع متماهية مع المؤسسة الأمنية، العسكرية أصلاً.. ومفيد هنا الاستشهاد بحادثةٍ قديمةٍ، جاء على ذكرها الصحافي الفرنسي دانييل لوكا في كتابه “سورية الجنرال أسد”، وترجمه الدكتور فايز القنطار، أنقلها بإيجاز:
في خريف 1987، وأواخر عهد وزارة المهندس الدمشقي عبد الرؤوف الكسم، الذي أثار وجوده بين كتلةٍ من الفاسدين، تساؤلات جمَّة، فالرجل معروف بنظافة يده.. أمر الكسم، بناء على طلب حافظ الأسد بالذات، باعتقال ابنة عم زوجة وزير الدفاع، مصطفى طلاس، لإدارتها بعض حلقات الفساد، فاجتمعت، حينذاك، المؤسسة العسكرية العليا، وكلَّفت طلاس بالتوجه إلى حافظ الأسد لإبلاغه ما جرى من تجرؤ على المؤسسة العسكرية! وكان العماد يصرخ في كل مكان غاضباً: “لسنا عائلة تعمل في التهريب، فأنا أدير كل سنة موازنة تزيد على 25 مليار ليرة سورية، ولست بحاجة للتهريب (…) هذا يمثل إهانة للجيش وللحركة التصحيحية، وهو ضد الذين صنعوا حرب تشرين كلهم”.
المهم أن الأسد وافق، لكنه عاد، بعد يومين، ليخبر العماد طلاس بأنه سيعيد تكليف الكسم برئاسة الوزارة، لأنه رجل شريف، ويمتلك الكفاءة اللازمة، “ولم يجد خلفاً مناسباً له..”. عندئذ اتصل إبراهيم الصافي (قائد إحدى أهم الفرق العسكرية) بعبد الرؤوف الكسم، بعد أن أبلغه طلاس قرار الرئيس بساعتين، وليقول له مهدّداً: “إذا أردت أن ترى، وأنت على قيد الحياة، زوجتك وأولادك، ننصحك برفض اقتراح الرئيس”. وهكذا كان.. وجيء بمحمود الزعبي.
ومن تجربتي بشـأن أسلوب العمل في مجلس الشعب، أسوق هذه الحادثة ذات الصلة بالموضوع.. في أواخر العام 2004، بدأ المجلس يناقش تعديل قانون العاملين الموحد، واستعدّ لذلك النواب الشيوعيون والبعثيون والفريق البرلماني لاتحاد العمال، وغيرهم، للعمل على إلغاء المادة 137 من القانون التي تجيز للسلطة التنفيذية تسريح العاملين من دون أي سبب يتعلق بالعمل، بل وفق عبارة فضفاضة “مقتضيات المصلحة العامة”، ما يعني تسريحاً تعسفياً يستند إلى تقارير أمنية، غير نزيهة دائماً، ولأغراض سياسية محضة. وبالفعل كان للمجلس ما أراد، لكن السلطة التنفيذية، ممثلة برئيس الجمهورية، أعادت مشروع القانون لعرضه ثانية وفق الدستور.. وفتح، آنئذ، رئيس المجلس، محمود الأبرش، المناقشة، طالباً إعادة نظر المجلس بالمادة، وكان أوَّل المتحدثين العضو زهير الناعم الذي أكَّد قرار المجلس، مشيراً إلى مادة في الدستور، تقول إنه في حال إصرار المجلس على رأيه لدى أي خلاف بينه وبين السلطة التنفيذية، فالقرار عندئذ للمجلس. وتقدّم زميل آخر ليؤكد ما قاله الناعم، فاكتفى رئيس المجلس بهذين الرأيين، وأقفل المناقشة، ولم يعارضه أحد، وليجري فيما بعد التفافٌ على المادة المعنية، بعد أن غير كثيرون رأيهم، لتظل المادة قائمة سيفا على رؤوس العاملين.
وثمّة أمثلة كثيرة على أنّه لا سلطة لمجلس الشعب السوري، فهو ليس أكثر من منتدى عام، له حرية قول ما يشاء، تاركاً الفعل للسلطة التنفيذية، ومرجعها الأساسي رئيس الجمهورية الذي يستند، في قراراته الأساسية، إلى المؤسستين، العسكرية والأمنية. وحتى في مجاله، باعتباره سلطة تشريعية، يقدم مشاريع قوانين، ومناقشتها وإقرارها.. وحينما يفعل تعرقلها السلطة التنفيذية، وخصوصاً حين لا تتوافق مع توجهاتها. ومن هنا، ترى الحديث عن ضرورة فصل السلطات على ألسنة من يهتم بالشأن السوري. وما حصل بشأن إقالة هدية عباس ليس أكثر من مسرحية كوميدية بإخراج رديء. ولو كان لمجلس الشعب السوري أن يقيل رئيسه، لأقال وزيراً واحداً أو مديراً عاماً من الفاسدين السابقين، أو ممن تناسلوا كالفطر في ظل الحرب القذرة التي فرضها النظام على الشعب الذي لم يحرّك مجلسه “الديمقراطي” جداً ساكناً، بل طبَّل وزمَّر..
أخيراً: لو كان لمجلس الشعب أن يقيل رئيسه، لما تدمرت سورية، كما يشتهي المتربصون بها، وفي مقدمتهم إسرائيل.
المصدر : العربي الجديد