مقالات

ميشيل كيلو : أميركا تلاعب إيران

لا يعرف قادة إيران قواعد اللعب السياسي الأميركي. لو كانوا يعرفونها لفهموا أنها تتبنى، بين ما تتبناه، نهجين، يقومان كلاهما على تأسيس ساحة هيكليةٍ، يدخل الآخرون إليها ويخرجون منها بإذنها ورغبتها، شريطة ألا يتحول أي منهم إلى جزء تكويني منها، كي لا تستمر في الوجود بدونه.

هذه الساحة تدخل واشنطن إليها الآخرين كي يخدموا مصالحها، وهي تترك حصة لهم، تتعين بقدرتهم على إنجاز مهمتهم الرئيسة: خدمة مصالحها وإدراج مصالحهم في إطارها، فإن كانوا من القوة، بحيث يقاومون إدخالهم إليها بغير شروطهم، أو لغير المهمة التي قررتها واشنطن لهم، تركز جهد البيت الأبيض على أخذهم إلى الوضع الذي يجبرهم على تنفيذ ما يريده، بتركيز جهودها على تكييف أوضاعهم مع خططها وحاجاتها، وإخضاعهم للشروط التي حددتها لهم فيها، وإن تظاهرت بقبولهم على حالهم، واعترفت لفظياً بحقهم في الاستقلال عنها. إنها إما تكيف الآخرين مع سياساتها ومصالحها، أو تكيف نفسها مع أوضاعهم، كي تغيرها بالقدر الذي يرغمهم على قبول ما تقرره اليوم، أو كانت قد قررته بالأمس، لهم.

ليس التوازن وضعا تقبله أميركا، لكونه يقوم على الندية والحقوق المتساوية والاستقلالية. هذه النقطة غابت، كما يبدو، عن قادة إيران، بسبب غرورهم الذي يمنعهم من فهم سياسات واشنطن، ويحجب عن أعينهم جهلهم بها، ويجعلهم يكتفون بأفكار مخصصة للاستهلاك الداخلي، تصورهم عباقرة يمارسون سياسات معصومة لا يأتيها الباطل، يقررونها نيابة عن ذات علوية مقدسة، أو تحت إشرافها، فهم، في نظرتهم، إلى أنفسهم رابحون دوماً، لأنهم عاجزون، بكل بساطة، عن أن يخسروا. بهذه الخلفية، كان من الطبيعي أن يجعلوا مفاوضاتهم مع أميركا انتصاراً صرفاً لهم، وهزيمة كاسحة لها، وأن ينشروا جملة من الأوهام حول نتائجها، تعبر عن اعتقادهم بأنها ستسلم المنطقة لهم، بعد أن أضعفوها وأرغموها على الاستجابة لمطالبهم، بل وجندوها لخدمة مصالحهم على حساب مصالحها.

تبدو إيران جهة تتخبط في فخ نصبته لنفسها، فالاتفاق الذي فرضته أميركا عليها صار أمراً واقعاً يصعب التنكر له، مع أنه جعلها دولة محدودة السيادة، بما فرضه عليها من تدابير وإجراءات تفتيشية غير محدودة. ووضع طهران في سورية لم يتحسن، بل صار خطيراً بسبب تبدلٍ أصاب الموقف الإقليمي/ الدولي، يضعها أمام أحد خيارين: المزيد من الانغماس في الوحل السوري، أو الخروج منه مع ما يضمره ذلك من إضرار بمصالحها، وتهديد لعملائها ومرتزقتها في المشرق.

كما أن هجومها في اليمن تحول من فرصة نجاح إضافية، تنتمي إلى حقبة غضت أميركا خلالها النظر عن تمددها وانتشار جماعاتها في البلدان العربية المجاورة، إلى بداية انكفاء مهلك، يتجلى في رد عربي/ إسلامي عليها فتح ملف وجودها في العالم العربي من جهة، وفي عجزها من جهة أخرى عن نجدة عملائها في حزب أنصار الله الحوثي الذي ما إن أكمل انتشاره في أرض اليمن، والذي لن يستطيع المحافظة عليه، لافتقاره إلى القوة اللازمة لإدامة سيطرته عليها، حتى بدأ طرد إيران من جزيرة العرب، وانقض تحالف عسكري عربي/ إسلامي، مدعوم أميركياً ودولياً على الحوثيين، وسط إعلانات عسكر واشنطن بمنع طهران من التدخل في الصراع لنجدته، ولو رمزياً عبر إرسال سفنها الحربية إلى بحر العرب.

تلاعبت أميركا بإيران كما يتلاعب هر بفأر، وها هي تدفعها إلى مكان يجبرها على التكيف مع سياساتها ومصالحها، مقابل بقائها في الحقل البنيوي الذي أقامته واشنطن في المنطقة، ووظفت فيه جهوداً متنوعة، كان أهمها استدراج عسكرها إلى المقتلة السورية، ثم، وما إن تأكد سقوطها في الجحيم السوري، وانزلاقها إلى مواجهة مع العرب، حتى قلبت لها ظهر المجن، وحرضت خصومها على تسديد ضربات موجعة لها في اليمن، حيث ظهرت محدودية قوتها، ولا محدودية تبجحاتها. وفي سورية، حيث بان تخبطها في الفخ المنصوب لها، وصار بالإمكان البدء بتحجيم دورها العربي، وإخراجها من أماكن خالت أن مصيرها صار بيد “وليها الفقيه”، وأنها ألحقتها بها، وجعلتها جزءاً من مستعمراتها.

انتهت مع معركة الحرية في سورية، ومعركة عاصفة الحزم في اليمن، أكذوبة إيران قوة عظمى، تستطيع السيطرة على المنطقة والاستئثار بها، في مواجهة شعوبها وبقية العالم، بينما يغرق مركزها الإمبراطوري في مشكلات تهدد وجوده، علماً بأنه لم يسبق لإمبراطورية أن أرجأت سقوطها في مركزها عبر التمسك بأطرافها.

بنهاية زمن الاستفراد بالجيران، وزمن غزوهم من الداخل، وببدء زمن مواجهة العرب لها في جنوب وشمال وشرق وغرب وطنهم، يجد قادتها أنفسهم أمام أحد خيارين، كلاهما مر: إنقاذ نظامهم عبر مراجعة شاملة لحساباتهم، تفرض عليهم الانسحاب إلى داخل بلادهم، أو انهيار مركزهم الإمبراطوري سيتسارع من الآن فصاعداً في أطرافه. ماذا سيختار المعصومون المزعومون؟ مواصلة التخبط هنا وهناك بينما تدنو نهايتهم، أم الواقعية والعقلانية والانكفاء والتعامل مع جيرانهم كأحرار مستقلين، لهم الحق في قلع أشواكهم بأيديهم، بالطريقة التي يختارونها ومن دون تدخلها؟

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى