من اللافت للنظر، والمؤلم حقيقة، أن يرى المتابع للشأن السوري النزعة المتوفزّة في كل لحظة للانقضاض على أي بادرةٍ، أو محاولةٍ، للتقارب بين الفرقاء الذين يمثلون، باجتماعهم، جزءاً كبيراً من الشعب السوري.
إذ مجرد ما يعلن عن نيّة في عقد اجتماع ما أو مؤتمرٍ ما، أو جولة مباحثات تحضيرية لنشاط ما، تعلو الأصوات مستنكرة ورافضة ومشككة ومتهمة بالتخوين والالتفاف على الثورة، أو في الطرف المقابل بخيانة الشعب والارتماء في أحضان الأطراف الخارجية الداعمة والمصادرة للقرار السوري.
جديد تلك المشاهد كان بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، خالد خوجة، ورئيس تيار بناء الدولة، لؤي حسين، في اسطنبول، وصرح الاثنان فيه أن هناك توافقاً على خطوات أولى للمساهمة في “إنقاذ سورية”.
فهل هناك مطلب ملحّ وحاجة ماسة في الوقت الراهن أكثر من إنقاذ سورية؟ سورية التي غرقت أرضها بالدم، وقتل وعُذب وشرد أهلها، وطفروا في بقاع الأرض؟ سورية التي تقسم مجتمعياً وجغرافياً وإدارة واقتصاداً ومؤسسات، ولم يبقَ منها غير حلم هو الآخر تمزق وانتهك وقَصفت أجنحته ونتف ريشها؟
ارتفعت الأصوات المحتجة لأن “علم الثورة” أزيح بناء على طلب لؤي حسين، واتهم الخوجة بخيانة الثورة، ليس فقط بقبول إزاحة العلم، بل بقبوله الاجتماع مع لؤي حسين “العلوي” الذي “لا يمون على بندقية”، والذي لا يمثل أكثر من مئات من الشارع السوري، وليس تياره أكثر من ألف، كما جاء في تقرير تلفزيون أورينت، حتى اضطر الخوجة إلى أن يدافع عن نفسه في تغريدةٍ: وجود علم الثورة على يميني مدعاة فخر واعتزاز لي، وأتطلع إلى اليوم الذي تعتمده جميع قوى الثورة وفصائلها.
هل العلم هو المشكلة؟ وهل بقيت هناك ثورة، أم إنها حرب شرسة بين أطراف تتبارى في الإجرام بحق الشعب؟ أو ليست معظم المناطق التي سيطر عليها طرف مسلح ترفع علم هذا الطرف؟ ألم تُغطَّ مناطق عديدة من سورية “المحررة” بالرايات السوداء التي تشهر بواسطتها تلك الفصائل أهدافها وبرنامجها الإقصائي والشمولي؟
في بدايات الحراك السوري الذي ابتدأ سلمياً، تظاهر فيه الشعب في مناطق عديدة من سورية، يرفع شعارات الحرية والكرامة ووحدة الشعب، رُفع العلم السوري الحالي والذي ما زال العلم الرسمي للجمهورية العربية السورية، ليس واضحاً بشكل دقيق كيف ومتى رفع العلم ذو النجمات الثلاث الحمراء، والذي اعتمد علماً للثورة. لكن، من التواريخ الموثقة أنه حُمل رسمياً في مدينة أنطاليا التركية في مؤتمر للمعارضة بتاريخ 1 يونيو/حزيران 2011، كما كان قد صمم المعارضون السوريون صفحة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، تدعو إلى رفع علم الاستقلال، مثلما أطلقت صفحة الثورة السورية على “فيسبوك” حملة “أربعاء علم الاستقلال”، تدعو إلى نبذ رموز النظام ورفع العلم القديم، ثم كُرّس العلم سياسياً من المجلس الوطني السوري الذي اتخذه علماً رسمياً له، ومن بعده الائتلاف السوري المعارض الذي اعتمدته الحكومة التابعة له علماً رسمياً.
ليس الخلاف على العلم سوى انعكاس صارخ لشروخ كبيرة تتعمق بين مختلف تيارات الشعب السوري وأحزابه وشرائحه، والذي، في غالبيته، لا ينجم عن وعيٍ سياسي، أو يدل على ضمير وطني ونزاهة انتماء، بل هو واحد من الحوامل التي أثقلت بحمولات عصبية، ولُونت بألوان طائفية ومذهبية وقومية، وإلى ما هنالك من أسباب الفتن والتناحر بين فئات الشعب السوري، تم تجييش الشعب بواسطتها، لم يكن القادة السياسيون في جميع المنقلبات غير بريئين من هذا التردي والانحدار والضياع الذي وصل إليه الشعب في إدراكه ذاته.
في تاريخ سورية الحديث، ومنذ الانتداب الفرنسي، هناك مسيرة حافلة بالقصص والحكايات المرتبطة بمفاصل فاعلة في هذا التاريخ، ولكل علم حكاية، حتى إنه، منذ الوحدة المصرية السورية، إلى بداية الحراك السوري، تغير العلم في سورية مرات عديدة، بحسب أمزجة الأنظمة السياسية وتطلعاتها المرتبطة بمصالح وأهواء، بين وحدة ثنائية بين سورية ومصر، وثلاثية بين سورية ومصر والعراق، وبين سورية ومصر وليبيا، كلها اعتمدت أعلاماً مختلفة، وباءت بالفشل في ظل أنظمة شمولية مستبدة متشابهة.
وليس العلم الذي اعتمدته قوى المعارضة ذو النجمات الثلاث الحمراء سوى علم أقرته حكومة الانتداب، فقد أصدر المندوب السامي الفرنسي هنري بونسو المرسوم 3111، نص على صياغة سورية “دستور الجمهورية السورية”، حيث صدر الدستور فيما بعد، ووصف العلم في المادة الرابعة من الباب الأول: يكون العلم السوري على الشكل الآتي: طوله ضعف عرضه، ويقسم إلى ثلاثة ألوان متساوية متوازية، أعلاها الأخضر فالأبيض فالأسود، على أن يحتوي القسم الأبيض منها في خط مستقيم واحد على ثلاثة كواكب حمراء ذات خمسة أشعة. ولهذا التصميم كانت رمزية توائم بين التاريخ والحاضر.
كما أن النشيد السوري الذي لحّنه الأخوان فليفل مستوحى من العلم: أما فيه من كل عين سواد، ومن دم كل شهيد مداد؟
عندما تنحرف الثورة باتجاه الحرب، وتضيع بوصلتها وأهدافها التي قامت من أجلها، وعندما تترسخ قيم أخرى معاكسة لقيمها، ويزداد مع تقدم العنف تمزق المجتمع، وتتراجع الحياة إلى مرحلة ما قبل الدولة، وتهيمن الطائفية والمذهبية والأسلوب القبلي في إدارة الحياة، يصبح من المهم والملحّ البحث عن حلول إسعافية، وعن وضع خطط تكتيكية واستراتيجية لإنقاذ سورية، استحقاق الوطن وحق الشعب على من يطرحون أنفسهم، ممثلين له في المنابر المختلفة، هو لملمة ما تبقى، والمحاولات الحثيثة لإنقاذ المركب الجانح وحمايته من الغرق، وليست البداية أقل من الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت، وتوصيف الواقع بشفافية من دون النفخ في نار الطائفية ومحرضات الفتنة والتقسيم، والاعتراف بأن ما ينجز على الأرض ليس ثورة، وإنما حروب ومعارك من يكسبها يفرض شريعته وسيادته، وليست الفصائل التي تكسب المعارك أفضل من النظام القمعي في إدارتها المناطق التي كسبتها، بل تباريه في استبداده، وتبزه في طائفيته التي تطبقها فوراً بعد ربحها المعركة.
ليس العلم هو المشكلة، إنها أكبر من ذلك بكثير، دعوا العلم وشأنه، وفكروا بالحلول التي تحقن الدم السوري، وتعيد ومضة من الأمل إلى روح هذا الشعب المنتهك والمنهك. أنجزوا تجربتكم على أرض الواقع، ثم ابتدعوا رموز الوطن، واستفتوا الشعب عليها، إذ من منكم استفتى الشعب على أمر يتعلق بقضاياه التي صادرتم الحق الحصري في تبنيها؟ وهل يمكن أن يبنى وطن على نغمات الوعيد والإلغاء لشرائح عديدة من أبنائه؟
بدلاً من الوقوف على المشتركات التي يمكن أن تبنى عليها حلول قابلة للتطبيق، والتي جاءت بالمؤتمر الذي عقد بين الخوجة وحسين، شُغل الرأي العام بالعلم، وترك المهم من الخطاب من أجل مزيد من التيه والضياع.
العربي الجديد _ وطن اف ام