في كامب ديفيد وقع تفاهم جديد على شكل العلاقة الأميركية الخليجية، لكنه تفاهم مختلف عن السابق ويعكس تردد الدولة الكبرى في التورط في نزاعات الإقليم كما يعكس عدم رغبتها في تحويل الصيغة الجديدة إلى اتفاق واضح المعالم.
التردد في سياسات الدولة الكبرى نتج عن حروب الإقليم الأميركية في أفغانستان والعراق، ونتج عن صعود إيران والمفاوضات النووية معها، ويضاف إلى كل هذا الربيع العربي والثورة المضادة العربية ثم نشوء سلسلة من الدول العربية المفككة. في كامب ديفيد محاولة لتفاهمات لا تغطي كل الأبعاد مع دول الخليج. الولايات المتحدة لم تعد تخيف أعداءها كالسابق رغم قوة أسنانها، لكنها لا توحي بالثقة لأصدقائها نتيجة حاجتها للتهدئة والتفاهم مع من سمتهم «محور الشر» منذ عقد.
وستجني الولايات المتحدة من جراء التزامها الجديد فوائد جمة من بيع السلاح والمنظومات الصاروخية مما سيبقي منطقة الخليج الأولى في العالم في استيراد السلاح، لكن هذا سيصب في جانب منه في مصلحة الجهادية الإسلامية التي تأسست بالأساس كردة فعل على الدور الأميركي العسكري في منطقة الخليج. ولا يوجد في الاتفاق الجديد ما يلزم الإدارة الأميركية الراهنة ولا القادمة بما هو أكثر من حماية من عدوان خارجي واضح/ فاضح، فهي لن تتدخل بقوة في نزاعات النفوذ والتمدد كاليمن. ستتدخل الولايات المتحدة في إطار حربها المحدودة في مواجهة «القاعدة» و «داعش»، وهنا بالتحديد ستجد أنها على توافق مع كل من إيران ودول الخليج. لقد تغيرت الحسابات الأميركية، والرهان اليوم مختلف عن رهانات تسعينيات القرن العشرين.
في المرحلة القادمة ستتعامل الولايات المتحدة مع عدة أبعاد. أولاً ستتعامل مع الخليج بقيادة السعودية، خاصة أن السعودية في موقع المبادر في ظل قيادة شابة جديدة، كما ستتعامل الولايات المتحدة ثانياً مع إيران التي ستزداد قوة وربما تكسب بعض الاعتدال بعد رفع العقوبات، وستتعامل الولايات المتحدة مع البعد الثالث وهو تركيا بصفتها القوة العسكرية الأهم في أوروبا والدولة الحديثة التي تمثل الاقتصاد الإنتاجي الأهم في الإقليم والقادرة حتى الآن على نسج علاقات عميقة مع حركات شعبية وإسلامية عربية. هذه المحاور الثلاثة ليست متناقضة بالمطلق، فلتركيا علاقات مع إيران، ولتركيا علاقات متجددة مع السعودية، وللسعودية خلافات مع إيران، لكنها لا تشمل كل محور، خاصة أنها تتعامل مع الدور الإيراني في العراق بدرجة من البراغماتية في مواجهة «داعش».
وستجد الولايات المتحدة أنها تتأثر ببعد رابع في الإقليم: «القاعدة» و «داعش» والسلفية الجهادية بكل تشكيلاتها التي تتواجه مع الدولة الكبرى. في هذا تشتبك الولايات المتحدة مع الراديكالية الإسلامية السنّية مما يقربها في حالات عدة من المدرسة الشيعية الأقل راديكالية في هذه المرحلة. وبطبيعة الحال ستقع مفاجآت في هذا الملف كما حصل مع بروز «داعش». فالجهادية الإسلامية قوة كامنة متطرفة تنتجها أوضاع متطرفة في العالم الإسلامي، ولهذا فهي عامل مستمر ونامٍ في المرحلة القادمة.
وستتعثر سياسة الولايات المتحدة، الساعية نحو إيران كما نحو الخليج وتركيا للحفاظ على ميزان الشرق الأوسط ولتأمين صفقات السلاح، بسبب السياسة الإسرائيلية والاستيطان والتوسع الإسرائيلي خاصة من المنظور الشعبي العربي. وهذا البعد الخامس (الدور الإسرائيلي) سيصب في مصلحة إيران والسلفية الجهادية في الإقليم كما لمصلحة الرؤية التركية المشتبكة أيديولوجياً وتعبوياً مع إسرائيل. إن تحالفات الولايات المتحدة الإقليمية في ظل الدور الإسرائيلي المؤثر على قراراتها ستبقى عرضة للمفاجآت لأسباب تتعلق بالاستيطان والتمدد الإسرائيلي في القدس والأراضي الفلسطينية.
لكن الولايات المتحدة ستواجه تحدياً سادساً مع حلفائها العرب: إذ سيمثل استمرار الحراك الشعبي الثوري السلمي العربي عنصر تحدّ لكل قاعدة للعمل السياسي العربي الرسمي.
الحراك الثوري العربي ما زال قائماً في الدول العربية التي تعاني من ضغوط اقتصادية وسياسية ضخمة، وهو يمر بمرحلة تسخين وإعادة تعريف وترتيب أولويات. هذا البعد الشعبي العربي يتفاعل مع عجز أجزاء هامة من النظام العربي عن تلبية حاجات مواطنيها وتحسين واقع المجتمعات السياسي والاقتصادي، بل وعجزها عن التعامل مع التهميش وتوغل الفساد والاستعلاء وضعف دور القضاء المستقل وغلق المساحة العامة والتضييق على الحريات والشباب. إن روح الربيع العربي كما عبرت عن نفسها في عام ٢٠١١ لم تختفِ، بل تبقى عاملاً كامناً سيطل برأسه مجدداً في ظل غياب وضعف وتردي أجندات الإصلاح حتى الآن. لغة القمع الشائعة عربياً لن تنجح في منع التحول التاريخي الحاصل الآن في عقول جيل وفي ثقافة المنطقة.
وستبقى إيران مشتبكة في الوضع العربي، وإن تحديد دورها وتحديه لن يخرجها بالكامل، كما أنها تبقى مشتبكة مع الصهيونية، وهي في هذا ستبقى متبنية لموقف مؤيد لـ «حماس» ولغزة ورافض للتنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل، وهذا سيبقي إيران في الوضع العربي. إيران تحاول أخذ مواقع سياسية تخلى عنها الكثير من العرب، فبينما مصر في هذه المرحلة تصدر أحكاماً وتمارس مقاطعة ضد غزة ستسعى إيران للنقيض، وهذا سيجعل إيران مقبولة في أوساط عربية وفلسطينية. من هنا سيزداد التنافس الإيراني العربي في مجالات عدة منها المسألة الفلسطينية، بل إن إعادة الدفء لعلاقة «حماس» بدول الخليج ضرورة كبرى للتوازن الإقليمي، كما أن تطويق غزة من الجانبين المصري والإسرائيلي لا يصب إلا في مصلحة الدور الجهادي والإيراني في غزة.
وستدعم إيران كما فعلت في السابق «حزب الله»، بل لن يكون هناك حل نهائي لخروج الأسد وحل عدة ملفات أخرى في الإقليم إلا بتفاوض ومشاركة مباشرة مع إيران. ومع ذلك ستكون إيران في الإقليم العربي أقل اندفاعاً وتطرفاً، ربما لأن الاتفاق النووي ورفع العقوبات سيكونان مصدر راحة لها واعتدال، ولكن أيضاً بسبب قضمها لمناطق في الإقليم لا تستطيع هضمها والحفاظ عليها.
ويلاحظ أنه في السنوات الأخيرة مع صعود تركيا أصبحت هي المنافس الأهم لإيران في القضية الفلسطينية. بينما الحالة العربية في شكل عام تمر بظروف عدم توازن من جراء الأوضاع المحلية والسعي لاستمالة الولايات المتحدة التي بدورها تسعى لإرضاء إسرائيل، إلا أن تركيا أكثر استقلالية أمنياً وسياسياً واقتصادياً وسكانياً، وهذا يجعلها قادرة على المبادرة تجاه القضية الفلسطينية التي تؤثر في بناء وحدتها الذاتية وفي دورها العربي والإسلامي.
المملكة العربية السعودية من بين الدول العربية المركزية هي الأكثر مبادرة ونشاطاً الآن، لكنها في الوقت نفسه تواجه جبلاً من التحديات المحلية والإقليمية. في كل هذا توجد أمامها تحديات من الصعب إنجازها بلا تحالف واضح مع تركيا، وبلا تبني بعض الحراكات السلمية في الشارع العربي والعودة إلى المسألة الفلسطينية كخيار إنساني حقوقي واستراتيجي. إعادة بناء البيت العربي ستتطلب تسويات بين المكونات التي تمثل أركانه أكانت طوائف أو قبائل أو حواضر، لكن ذلك يجب أن يتم في ظل مشروع مدني ديموقراطي أساسه فتح مساحات من الحرية والحقوق والتطوير الدستوري. إن إعادة إنتاج الماضي بوسائل جديدة لن تؤدي سوى إلى مزيد من تفكك الحاضر.
الحياة _ وطن اف ام