ما كان لقمة كامب ديفيد الخليجية الأميركية (13 مايو/أيار 2015) أن تنتهي إلا بسوء تفاهم بين الأطراف، والسبب التباين العميق في جدول الأعمال لدى الطرفين الشريكين.لم يكن في أجندة واشنطن للقمة أي بند يتجاوز مهمة تبديد قلق دول الخليج من نتائج الاتفاق النووي وتجديد التزام واشنطن التقليدي بأمن دول الخليج ضد أي اعتداءات خارجية، وبالتالي، إقناع الخليجيين بأن التوقيع على الاتفاق النووي بين طهران والدول الخمس لن يكون على حساب أمنها، وإنما هو جزء من تحجيم القوة الإيرانية، ولجم صعودها، وأن واشنطن مستعدة لمناقشة أي مقترحات أخرى لتعزيز أمن دول الخليج واستقرارها، لقاء ما يمكن أن ينجم عن هذا الاتفاق الغربي الإيراني من مخاطر على الخليج.
في المقابل، عندما رحبت دول الخليج بالذهاب إلى كامب ديفيد لم تكن تقصد زيادة ترسانتها من الأسلحة، أو تبديد شكوكها في العلاقة التاريخية التي تربطها بواشنطن، وإنما كانت تريد أن تدفع واشنطن إلى التفكير والعمل لمواجهة الخيارات السياسية التي تبنتها طهران في المنطقة. فمخاوف الخليج لا تنبع من خطر تعرض بلدانه لهجوم عسكري من إيران أو غيرها، على الأقل ليس حتى الآن. إنه ينبع من إغراقها في مستنقع الحروب والنزاعات المتفجرة في محيطها العربي، والتي لا تفيد فيها الأسلحة، حتى المتطورة، بمقدار ما إنها تنجم عن عملية التفكيك الممنهج للمجتمعات وتمزيقها وتوجيه بعض جماعاتها ضد البعض الآخر، بالدعاية الأيدولوجية والشحن المذهبي، قبل تزويدها بالمال والسلاح والخبرة والمشورة.
بين الأمن الوطني والأمن الإقليمي
ما طرحه قادة الخليج على واشنطن لا يتعلق بالأمن الخليجي، بالمعنى الضيق للكلمة، وهو الذي لم تتخل عنه واشنطن، وليس من مصلحتها التخلي عنه، وإنما بالرد الذي ينتظرون أن توجهه واشنطن على أزمة النظام الاقليمي المشرقي بأكمله، بعد محاولات طهران الناجحة لتقويضه. وبالتالي، مواجهة هذه المحاولات نفسها. وكانوا يشعرون عن حق بأن تحجيم القدرة العسكرية النووية الإيرانية لا يفيد كثيرا في هذا المجال، وأن التفاهم الذي ولد في سياق حل الملف النووي الإيراني بين واشنطن وطهران أخطر على دول الخليج من النووي نفسه، بمقدار ما يشكل تطمينا لطهران وتشجيعاً لها على الاستمرار في خياراتها الإقليمية السلبية، ويفرض على واشنطن غض النظر، أو على الأقل، التساهل في مواجهة سياسات التقويض السياسي لاستقرار الدول العربية وسيادتها.
قادة الخليج محقون في اعتقادهم، الذي ولد في نار المعارك الملتهبة في الشرق، بأن أمن الخليج لم يعد ممكنا خليجيا، أو لم يعد من الممكن ضمانه بالانكفاء على منظومات الدفاع الخليجية العسكرية مهما كانت قوتها، وإنما أصبح جزءا لا يتجزأ من أمن المشرق العربي بأكمله، أي أن مصدر التهديد الأكبر جيوسياسي، وليس استراتيجيا فحسب، وأن ضمانه لا يتوقف على توفير الأدوات العسكرية الفعالة، وإنما يحتاج إلى إعادة النظر في توازن القوة الذي اختل اختلالاً كبيرا في المشرق خلال العقود الماضية، حتى انتهى الأمر إلى اجتياح طهران قسماً كبيراً من المشرق العربي.
هذا بالضبط ما رفض تناوله الرئيس الأميركي، وأصر على أن يقصر دعمه للخليج على أمن دول مجلس التعاون، ولا يربط به الأزمة الاقليمية التي تهدد مصير سورية والعراق واليمن ولبنان، والتي رأي أنها معقدة، وليس هناك حلول قريبة لها. وكان من الطبيعي أن يفهم الخليجيون أن قمة كامب ديفيد لن تقدم أي عناصر جديدة لمواجهة الأزمة التي لم يعد من المسموح النظر إليها بوصفها مجموعة أزمات وطنية متزامنة، وأن أوباما لم يقبل الدخول في نقاش جدي حول الانهيار الشامل للنظام الإقليمي، ولا الالتزام بالمشاركة في مواجهته، ما يعني تعويم الوضع المشرقي، والتسليم بالفوضى فترة طويلة مقبلة، بعد زوال القواعد التقليدية الناظمة للعلاقات بين الدول والجماعات وغياب فرصة انبثاق قواعد جديدة في الأفق القريب من الصراع والمواجهات الجارية. وهذا هو التهديد الرئيسي الذي تواجهه دول الخليج، اليوم، حيث لم يعد هناك أمل في ضمان أمن أي دولة، من دون وقف التدهور المتفاقم للأمن الإقليمي.
يدرك قادة الخليج، عن حق، أن الفاعلين الرئيسيين في هذه الأزمة العميقة التي حولت البلاد العربية إلى ساحات قتال لا يهدأ، ولا أمل في وقفه في القريب هما إيران والولايات المتحدة. فقد دفع اختلال معادلة القوة إيران الخامنئية إلى الرهان على اجتياح الدول العربية، لتوسيع قدراتها ودائرة نفوذها الإقليمية، لإجبار الغرب على الاعتراف بها قوة إقليمية مهيمنة، وفك الحصار السياسي والاقتصادي الذي ضربه عليها منذ الثورة الخمينية في الثمانينات من القرن الماضي، والقبول بإشراكها في نظام الهيمنة والنفوذ العالمي، والاعتراف لها بمستعمرات أو بمجال حيوي، يوسع من هامش مناورتها الدولية. ولا شك أن طهران وجدت في بلدان المشرق العربي المفتقر لبنية أمنية تمكنه من الدفاع عن نفسه أفضل الفرص لتحقيق مشروعها. فاستغلت هشاشة الدول العربية الصغيرة وفقرها وتخبط نظمها السياسية التي افتقرت لكل سبل الأمن والاستقرار والازدهار، لبناء مجد امبرطوري جديد، يرفع إيران من دولة إقليمية متوسطة إلى ند للدول الكبرى نفسها، أو هذا هو تفكير قادتها اليوم، مسلحين بعقيدة دينية خلاصية، ومشاعر قومية على حافة العنصرية تجاه ضحاياهم العرب.
أما الولايات المتحدة فقد كانت المسؤول الأول عن ترتيب الأوضاع الإقليمية في شبه النظام الشرق أوسطي الذي قام، منذ نشوئه بعد الحرب العالمية الثانية، على إدارة العنف وتنظيم الحروب والتدخلات المختلفة الأشكال، حسب مقتضيات الحفاظ على السيطرة الخارجية، والحيلولة دون نشوء نظام إقليمي مستقل، وبقيت واشنطن الكافل الرئيسي لاستقراره، أو للاستقرار النسبي الذي شهدته بعض دوله إلى وقت قريب. ولهذا، يبدو تخلي واشنطن عن مسؤولياتها، اليوم، بعد أن دمرت أسس القوة العربية حماية لإسرائيل، أو دفاعا من مصالح استراتيجية، أو بسبب أخطاء سياسية، عن حق، وكأنه مصادقة على مشروع الهيمنة الإيرانية المعلن، بعد المصادقة على مشروع الهيمنة الإسرائيلي، على حساب الشعوب العربية، تماما كما تبدو واشنطن، وكأنها أصبحت الحليف الرئيسي لطهران، حتى لو لم يكن هذا الحلف من أهدافها وبقرار منها.
أزمة المشرق العربي المفتوحة
لا ترفض الولايات المتحدة التدخل في الأزمة المشرقية الكبرى، من منطلق مبدئي، أو بسبب تخليها عن سياسة التدخل والتلاعب بالتوازنات الاقليمية، التي كانت السبب الرئيسي في تشوهات هذا النظام ونزاعاته وحروبه المستمرة، وأخيرا خرابه، ومعه منظومات الدول وحياة المجتمعات، وإنما لأن النظام الاقليمي المنهار لم يعد من الممكن ترميمه، وهي ليست معنية بنشوء نظام جديد قائم على أسس أكثر توازناً، وعلى الأغلب تخشى نشوءه، سواء أكان ذلك ضمانا لإمكانية تدخلها المعهود في شؤونه، أو مسايرة لطهران أو لإسرائيل، أو تأمينا لحرية الحركة والمناورة في مواجهة قوى إقليمية صاعدة. كما أن التدخل حتى للتهدئة، وتخفيف خلل القوة داخل الإقليم سيفرض عليها الاختيار بين أطراف وتوجهاتٍ ليس من مصلحتها أن تختار بينها أو تستعديها، بما في ذلك المنظمات المتطرفة.
بمعنى آخر، ليس من المؤكد أن للولايات المتحدة الأميركية مصلحة في وقف انهيار النظام الإقليمي في المشرق، أو في إعادة بناء هذا النظام على أسس جديدة. وربما ليس لديها القدرة على تحقيقه، حتى لو أرادت ذلك. فمثل هذا العمل يتطلب الإجابة عن مسائل عديدة، لا تملك الولايات المتحدة القدرة، ولا الشرعية لتقديمها، ومنها وضع حد لمطامح طهران، ونزع فتيل الحرب الطائفية التي تملك طهران مفتاحها، ووضع حد لتنامي قوى التطرف والإرهاب، وحل النزاعات بين النخب الاجتماعية المتنابذة، الإسلامية وغير الاسلامية، في البلدان العربية، وتنظيم علاقة الدين بالدولة في دول المنطقة بأكملها، وإرساء نظم مشاركة سياسية، والاستثمار في إعادة إعمار الإقليم، وضمان رضى إسرائيل التي لا تزال تراهن على تفتت المشرق العربي وضعفه وتخلفه للحفاظ على أمنها. بل إن الرئيس الأميركي لم يجد أمرا أكثر أهمية في حديثه مع الخليجيين من التغييرات السياسية، عندما ذكر أن المخاطر التي يمكن أن تواجهها دولهم داخلية أكثر منها خارجية، ولسان حاله يقول: لا تغيير ممكن في البيئة الإقليمية والمخاطر ستستمر، حصنوا بيئتكم السياسية الداخلية مع التشجيع، في الوقت نفسه، وبموازاة الإصلاحات السياسية، على فتح حوار مع طهران.
الإصلاحات السياسية ضرورية ولازمة، من دون أدنى شكل. لكن، لا يمكن لشعوب المشرق، في المقابل، أن تحلم، كما يقترح الرئيس أوباما، على إمكانية تسوية مع طهران عن طريق الحوار بعد توقيع الاتفاق النووي مع الدول الخمس، بينما عجزت عن إقناعها بتسوية معقولة قبله. وكما هو واضح من نتائج قمة كامب ديفيد، لا يمكن لشعوب المشرق، أيضاً، وفي مقدمها دول الخليج، أن تستمر في المراهنة على الحماية أو الشراكة الأميركية لدرء الحروب ووقف نزيف الدم في بلدان مشرقية عديدة، ولا من باب أولى لوضع حد لاختلال ميزان القوة الإقليمي. ولن تساعد مراكمة الأسلحة، مهما كانت متطورة في درء مخاطر الاجتياحات والتدخلات الأجنبية الإقليمية والدولية. ما يعني أن المستقبل الوحيد لأكثر الدول العربية، في حالة النجاح في تغيير التوازنات الجيوسياسية، هو لبنان، حيث تتقاسم النفوذ فيه الدول الأجنبية، ويعتمد الاستقرار فيه على تفاهماتها أو نزاعاتها، ولا وجود لدولة أو قانون غير توازن قوى الطوائف والميليشيات وعرابينها.
بديل الامبرطورية الفارسية
إعادة بناء النظام الإقليمي بما يضمن توازن قوى يمنع طهران، وغيرها، من العبث بأمن الدول العربية، وتقويض بنيانها من الداخل، هي مسؤولية عربية، وهي مسؤولية عربية مشتركة، لا يمكن أن يقوم بها طرف واحد وحده، ولو أن التكتل الخليجي هو القوة الأكبر والأكثر قدرة اليوم على الدفع نحو صياغة جديدة للأمن العربي والإقليمي، والمشاركة في إعادة إطلاق حياة المشرق العربي والأوسط معا. وليس في هذه الصياغة أي سر، وليس فيها أي أحجية. وقد اكتشفت الدول الخليجية نفسها، والنظم التي وقفت بقوة في مواجهة فكرة الاتحاد العربي في فترة سابقة، الطريق إلى ذلك، عندما طرحت في القمة العربية في شرم الشيخ، أخيراً، مشروع القوة العربية المشتركة.
إنما لم يعد من الممكن والمسموح قصر النظر، في موضوع الأمن، على حجم أو نوعية القدرات العسكرية وإمكانيات التدخل بالقوة هنا وهناك. القوة العسكرية شرط ضروري، لكنه ليس كافيا. المطلوب العمل بتؤدة وأناة، وبشكل تدرجي على رص الصفوف السياسية، وتهيئة الشروط الاقتصادية التي تفتح المشرق أمام حركة التقدم والازدهار المادية، وتزيد من فرص العمل والأمل بالمستقبل.
بديل الالحاق القسري بالإمبراطورية الفارسية المموهة بغلالة خلافة إسلامية طائفية، والقائمة على منطق القوة والسيطرة وتقويض الاستقرار وزرع الحروب والنزاعات، وتغيير البنية السكانية والمذهبية للأقاليم العربية، لا يمكن أن يكون المراهنة على الحماية الأجنبية الأميركية أو الأوروبية والتسليم لقدراتهما الاستثنائية. بديل الامبراطورية الفارسية والصراعات الشيعية السنية المواكبة لها، هو فيدرالية عربية مشرقية. وهذا لا يتحقق من دون إصلاحات ديمقراطية أساسية تطمئن الشعوب، وتعيد لها جزءا من حقوقها وتدربها على مسؤولياتها الوطنية. من دون ذلك، ليس هناك أي أمل، لا اليوم ولا غدا، في إعادة بناء النظام الإقليمي على أسس توازنات جديدة، تضمن استقلال الدول العربية وأمنها وتفاهم سكانها وازدهار حياة شعوبها. وهذا خيار لا تريده، ولا تقدر عليه، لا واشنطن ولا طهران ولا إسرائيل ولا أي دولة إقليمية طامعة في تحويل الأقاليم العربية إلى مناطق نفوذ أو مستعمرات أو أسواق لبضائعها وممول لصناعاتها العسكرية والمدنية الخاسرة.
واقع الشرذمة والانقسام والتمزق الذي يعيشه المشرق العربي لا ينبغي أن يحول دون ذلك. بالعكس، ينبغي أن يكون الحافز الأقوى للخروج من المأزق، وهو الحل الأمثل لمشكلة الحدود التي محتها المدرعات والدبابات والصواريخ البعيدة وأقدام المقاتلين من كل الأصناف، وفي الوقت نفسه، لتجنب إعادة رسمها على وقع خطى جيوش الاحتلال، وبحسب مصالح القوى الأجنبية.
المصدر : العربي الجديد