كان الاستياء من السياسة الروسية واضحاً، وظل سؤال الحضور عن السبب الحقيقي وراء الموقف الروسي من المسألة السورية من دون إجابة شافية من المشاركين الروس. ولم يستطع مؤتمر “العرب وروسيا: ثوابت العلاقة وتحولاتها الراهنة” الذي نظمه، قبل أيام، في الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إقناع أصدقاء روسيا، قبل أعدائها، من العرب، أو من السوريين، بشأن سبب مساندة موسكو النظام السوري، والمشاركة في نزف الدم السوري.
وكرر أصدقاء روسيا الذين تعلموا فيها، وتزوجوا من بناتها، الأسف من موقفها، مثلما يكرره كثيرون، محللون وسياسيون، في روسيا نفسها، على ضوء العلاقات التاريخية الروسية العربية، ومحاولة روسيا العودة إلى المنطقة العربية.
لم تقنع إجابات المدافعين الخجولة أحداً، كانت متناقضة، عزاها بعضهم إلى أسباب عقائدية أو سياسية أو انتهازية، وعزاها آخرون إلى عقلية الرئيس فلاديمير بوتين والمافيا المحيطة به. ما هي حقيقة الدوافع الروسية من المسألة السورية؟ وما هي الأسباب وراء هذا الموقف المخزي؟ معرفة الدوافع تستوجب دراستها بهدوء، والدفاع عنها، أو تفنيدها الواحد تلو الآخر. ربما سنصل إلى حقيقة أن جميع المسوغات المطروحة لا أساس لها من الصحة، وتنم عن لا أخلاقية السياسة الروسية، وتعارضها مع حق الشعب السوري.
وربما ينكشف غموض الموقف الروسي من زاوية العلاقات العالمية، وأهداف موسكو في الحصول على مكاسب في قضايا أكثر أهمية لها من القضية السورية برمتها.
“هناك من يبرر الموقف الروسي بردود فعل “أوكرانية”، على أساس أن موسكو بدأت تشعر بالعزلة الدولية” لنبدأ من أتفه التبريرات، تلك القائلة إن روسيا اتخذت هذا الموقف من أجل المحافظة على قاعدتها البحرية في طرطوس، أو المحافظة على حقوق التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية، أو الخوف من إنشاء أنبوب غاز قطري يمر بالأراضي السورية إلى البحر الأبيض المتوسط، ما يهدد المصالح الروسية، ويشكل منافسة للغاز الروسي في الأسواق الأوروبية. لا يحتاج المرء المتابع عناءً كثيراً ليجد أنه ليس لهذه التبريرات الثلاثة أساس من الواقع. أما التبرير بأن سورية سوق للسلاح الروسي، خصوصاً المتقادم الذي لا يشتريه أحد، فلا يصمد عندما نلاحظ افتقار سورية النقد الأجنبي اللازم للسلاح أو للغذاء، في ظل الاقتصاد المنهار.
يمكن الانتقال إلى أسباب أخرى، هي أن الموقف الروسي ينسجم مع أحلام إسرائيل في تحطيم سورية والقضاء عليها، دولة ومجتمعاً، وهي، في ذلك، تلتقي مع المشروع الأميركي الذي يدعم إسرائيل، ويحافظ على تفوقها الاستراتيجي. وفي السياق نفسه، سوف يستنزف ذلك إيران، ويمنعها من أن تصبح دولة قوية، خصوصاً إذا عرفنا أن روسيا تدعم إيران بالقدر الذي لا يخل بالتوازن في الشرق الأوسط الذي يحافظ على تفوق إسرائيل.
وهناك من يبرر موقف موسكو بخوفها من سقوط النظام السوري، وتنامي نفوذ تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، وإمكانية تصديره إلى روسيا، والأقاليم الإسلامية المتاخمة، ويتسق هذا الموقف مع خوف موسكو من إضعاف القوة الشيعية، وبالتالي، فشل الاستراتيجية التي تعمل عليها، وهي مواجهة الدور التركي بدور إيراني متميز في المنطقة. يسقط هذا التبرير إذا لاحظنا أن موسكو اتخذت موقفها قبل أن تستجد معارضة إسلامية، فيطرأ تخوف من تيار إسلامي، يمكن أن يرتد إلى موسكو.
وهناك من يبرر الموقف الروسي بردود فعل “أوكرانية”، على أساس أن موسكو بدأت تشعر بالعزلة الدولية، بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا، وبالتالي، محاولة موسكو الاحتفاظ بورقة مهمة في التفاوض مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وفي هذه الحالة، قيمة سورية بالنسبة إلى روسيا أكثر بكثير من قيمة سورية بحد ذاتها. وهذا يعيدنا إلى سعي موسكو إلى المحافظة على نفسها قوة عظمى، من دون أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية، لا يهم الغرق في الدماء وتشريد الملايين، إذا كان يحافظ على موقع موسكو في العالم، ويرضي غرور قادتها، خصوصاً بعد أن شعرت موسكو بالتجاهل، إثر تدخل حلف الناتو في ليبيا وإسقاطه نظام القذافي، وخسارة موسكو نفوذها وعقود تسليح ليبيا التي تتجاوز مليارات الدولارات، إنه الشعور بالإهمال وانعدام الوزن استمرت على هذا المنحى.
تريد روسيا المحافظة على نفسها قوة عظمى في السياسة والاقتصاد والإعلام، حيث انتهت إمكانية المحافظة على نفسها قوة عظمى في الحروب الكبرى، فزمن الحروب الكبرى انتهى. وفي الاقتصاد، لا يمكن لموسكو أن تكون دولة عظمى، واقتصادها على حافة الهاوية. وفي الإعلام، انتهت أيام الحرب الباردة، وانتهت أوهام القوة وأسرارها. ليس هناك من إمكانية “لدولة عظمى” إلا في السياسة، عندما يصول ويجول مندوب روسيا في الأمم المتحدة، ويشعر بوتين بالزهو، عندما يستطيع أن يعطل أي قرار لمجلس الأمن، وتتوافق حساباتها مع حسابات الولايات المتحدة في إضعاف إيران وحزب الله والمجموعات التكفيرية والإسلام السياسي، ويفاوض لافروف كيري على كل صغيرة وكبيرة في العالم.
العربي الجديد _ وطن اف ام