مقالات

سوسن جميل حسن : حين يغار السوري من المدن

برلين مدينة هانئة، يشعر من يعيش فيها بأنها تمشي وفق نظام منتج للحياة، مدينة ثرية بالجمال الإنساني، لكنها لا تعرضه بابتذال، بل عليك البحث عنه، لتعيش متعته، وأنت تكتشف كنوزها الخبيئة. هي ليست خبيئة، ولا متخفية، لكنها تقبع في مكانها اللائق، فاسحة المجال لفضول المعرفة وقيمة الجهد أن يتحققا، ويحققا غايتهما.

أغار منها، هل تصحّ الغيرة من المدن؟ أنا أغار منها، أغار من المدن الحيّة، وأنا القادمة من مدن الموت، من بلاد دُمّرت بنياناً ومجتمعاً واقتصاداً، ولم يبقَ فيها ما يُستثمر به غير الموت، اقتصاد الموت يجذب المستثمرين من جهات الأرض كلها، من القريب والبعيد، فكيف لا أغار منها، وأنا مهما بعدتُ، يلحق بي صدى الدمار وأنين أرواح ازدحمت السماء بها؟

في برلين التي تمشي بخطوات واثقة في دروب الحياة هناك قصة، وهناك تاريخ حافل بتجربة مريرة تحرص برلين على إبقائه ماثلاً في الذاكرة، حتى لا تتكرر الكارثة. كيفما مشيت في شوارع برلين، وفي ساحاتها وأزقتها، ترى قرينة للذكرى، لوحات معدنية مغروسة في الأرض أو مزروعة على جدار، تحمل ثبوتيات ذكرى ما. هنا كانت تسكن العائلة الفلانية وأفرادها فلان وفلان وفلان، بتواريخ ميلادهم، وسيقوا إلى المحرقة. هنا، في هذا الموضع من جدار الفصل، أعدم رمياً بالرصاص فلان، لأنه حاول اجتياز الجدار، والتسلل إلى الجهة الأخرى، ربما طمعاً بفرصة عيش أهنأ، أو لالتئام شمله مع عائلته التي فصم عراها الجدار والسياسة.

في الشوارع والأحياء ومحطات المترو والقطارات صور للمكان، بعد أن وقفت الحرب، صور للدمار والخراب، صور صارخة للجريمة التي ارتكبها بحق البلاد والشعب رجل مهووس بالسلطة، متخم بنزعة تدميرية كارهة للحياة، بدعوى الحياة المنتخبة، ثم صور لجنين المستقبل، وهو يتخلق، يواكب الإنشاء والتعمير في مراحلهما، وسواعد الباقين على قيد الحياة، وهم يعملون، يزيحون الركام، يفرزون ما هو صالح للتدوير والاستفادة منه، لكي يسخروه في خلق الحياة، وكأنهم يكرسون شعار “لا بعث إلاّ حيث توجد القبور”.

تبدد السوريون، وتهتك المجتمع السوري في الداخل والخارج، ولم يبقَ من إمكانية للحوار إلاّ ما ينازع منها ويحتضر

للمكان ذاكرة، والذاكرة تمتّن الارتباط بالواقع، المكان هو المجال الضروري للنشاط الإنساني، الرابط الذي يعزّز الانتماء إلى الهوية الإنسانية. امتلاك هذا المجال هو امتلاك أدوات الخلق، هو امتلاك الإحساس بالاستمرارية والسعي إلى الديمومة، هو رحلة الهوية التي يصنعها الزمن.
مَن المستفيد من تدمير هوية السوري؟ هذا الغول المسمّى “داعش” يقضي على التاريخ، تاريخنا الذي صنعناه وصنعنا. منذ أول قطع رأس تمثال إلى تدمير سجن تدمر، مترافقاً مع قطع الرؤوس الحية، وإبادة الأحياء والمدن والقرى، في مبارزة شرسة بين الأرض والسماء. كانت الرسائل مقروءة، رسائل التهديد بالمستقبل الذي لن يكون فيه مكان لدولة حديثةٍ، تقوم على أساس المواطنة، ولا مكان لمجتمع ديموقراطي، مستقبل تحكمه شريعة متنازع عليها، متنازع على احتكارها واحتكار المقادير والمصائر معها، بين دولة مزعومة تدّعي الخلافة والحكم بما أنزل الله على رسوله، وهي الأشد كفراً به، والأكثر تشويهاً وانتهاكاً له، وتنشأ مكتملة القوة والبأس.

وجماعة “النصرة” التي أعلن زعيمها، بكل أريحية، في جلسة “ونس” مع إعلامي الجزيرة “حافي القدمين” و”المتحرر من ربطة العنق”، خضوعاً لآداب الجلسة وشرعيتها، أحمد منصور، أعلن زعيم الجبهة، أبو محمد الجولاني، رسالته السافرة بعنوان وحيد: “نحن أو لا أحد”. وكأنما يعيد إنتاج الأسلوب الوحيد المتفرد لحكم سورية، وتطويع من بقوا فيها: نحن أو نحرق البلد. وهذه الـ “نحن” تأتي، اليوم، مجسّدة كثيفة المعنى، نحن وشريعتنا هي لون سورية القادم، هي الهوية التي سنحكم على من يرفضها بالموت، ليس مطلوباً أكثر من التبرؤ العلني من النظام، والانضواء تحت راية الإسلام الذي كلفنا الله بتكريسه، عقيدةً وشريعة، تقود الأمة إلى الخير الذي “نحن” نعرف كيف يكون. ليس في برنامج الخليفة مكان، أو بنود لما يسمى ديموقراطية أو تعددية أو حريات أو دولة، يدّعي معاملة من يختلفون عنه بأمان، والوثائق تشهد ببواكير نشاطه، ونشاط جماعته عند دخول المناطق التي يسيطرون عليها: الذبح. ومن بواكيره، أيضاً، تعفير علم “الثورة” بالتراب ودوسه بالأقدام.

ما سمّيت بالنكسة، “نكسة حزيران”، هي النواة التي كثّفت نكساتنا العريقة، وراحت تتخلّق، وهي اليوم في طور النضج والاكتمال، إنها النكسة التي تأتي مكتملة، سافرة وقحة فاجرة، على مرأى العالم أجمع. فهل العالم مبتهج بفاتورة الدم التي نسددها؟
تدمير الأوابد والحواضر محو للذاكرة، ضربة تسدد فوق ضربات الموت إلى شعب هذه المنطقة، فترديه مشلولاً فاقد الذاكرة، على قطيعة بتاريخه ومسيرة تطوره، عاجزاً عن إبداع حياته مستقبلاً. سجن تدمر المعمّر الذي خبّأ في فضائه تاريخاً كثيفاً عن مرحلة مرّت بها سورية كانت الخطوة الأهم فيما وصلنا إليه، يُنسف، ويبقى المدرج مسرحاً لإدارة المشاهد الحية، المشاهد التي ترسم بانوراما الدم، فيخضع من تبقى على قيد النبض، ويركع المجال العام صاغراً أمام الولاة الجدد، ولاة على الإسلام والمسلمين يُبايَعون بالدم. لكن، ليس كما عهدت سورية في ظل رئيسها الخالد، ليس بنقطة دم تلوّن دائرة مخصصة لقول “نعم” في ورقة استفتاء، إنها بيعة بنوافير الدم، وهي تنبثق من شرايين الأعناق المقطوعة.
هل تدمير سجن تدمر هو قطع الطريق على “الترحّم” على ظلم مضى، أمام ظلم قادم؟ وهل حرق المدن، مثلما حرقت مدينة مارع، محاولة لكتابة تاريخ آخر، غير تاريخ روما ونيرونها؟ هل هي نوع مما يمكن تسميته ما بعد بعد الحداثة؟ هل هي سوريالية تفوق إبداع سورياليي التاريخ؟

هل بات من المستحيل أن نصنع تجربتنا، وأن تنشأ من بين ركام دمارنا ثقافة بديلة، تصنع حياة تحمل بصمتنا؟ أين يكمن السر في ساعة الصفر هذه، لحظة يقظة البصيرة وتلقف ومضة في هذا العماء يدرك فيها الشعب السوري ذاته، أسوة بباقي الشعوب التي أمسكت لحظتها التاريخية، وعرفت طريق المستقبل؟ تبدد السوريون، وتهتك المجتمع السوري في الداخل والخارج، ولم يبقَ من إمكانية للحوار إلاّ ما ينازع منها ويحتضر، على الرغم من تعدد المواضيع التي تنتظر الحوار فيها. بتنا نحتاج إلى منقذٍ، يوقف الحرب ويمسك بيدنا لننفض عنا الركام، نضمد جراحنا، ونجعل من تجربتنا مصباحاً ينير لنا الطريق، ويجعلنا أكثر قدرة على قبول واحدنا الآخر، وأن نمتلك القدرة على بعض من التسامح، لأجل تحقيق الغاية الأهم والأثمن، لملمة جراح سورية ومساعدتها على النهوض؟ وأخيراً، هل يصحّ لسوري أن يغار من المدن؟

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى